لقد بدأ القديس باسيليوس عمله بمواجهة المشاكل العملية للكنيسة , واهتم بالبحث فى مشكلة الزمن لفترات طويلة . واعتبر أن المفهوم المسيحى الرؤيوى للزمن , هو أمر أساسى , الأمر الذى لم يقبله الهراطقة , وطرحوا أفكاراً آخرى مغايرة , متأثرين بذلك بالفكر الفلسفى وظهور بعض الآراء المضللة المتعلقة بعقيدة الثالوث , وبعمل المسيح الخلاصى , وخلق العالم العاقل وعلاقته بالله .
أمام هذه الآراء المنحرفة كان على القديس باسيليوس أن لا
يكتفى بمقاومة الهراطقة بشكل سلبى فقط , بل أنه بعدما شرح المفهوم المسيحى للزمن
بشكل دقيق , بدأ فى تحديد المصطلحات الزمنية التى أتت بها الفلسفة . هذا التحديد
كان هدفه تفسير وشرح هذه المصطلحات تحت نور الاعلان الالهى .
لم يكتب القديس
باسيليوس عملاً متصلاً عن الزمن , فتعليمه المتعلق بالزمن وجد فى أعماله الثلاثة
الآتية :
1 - ستة أيام الخليقة
2 - عن الروح القدس
3 - ضد افنوميوس .
وهذه الأعمال
الثلاثة تحمل سمات دفاعية , وقد أخذ القديس باسيليوس الدافع لكتابة هذه الأعمال ,
من تلك الآراء الخاطئة والمضللة التى نادى بها الهراطقة , وحاول أن يصيغ المواقف
الاورثوذكسية بأكبر قدر من الوضوح والبساطة . ولذلك عند دراسة تعليم القديس
باسيلوس , يجب أن نضع فى الاعتبار , الأسباب التاريخية التى دفعته للكتابة ثم
نتناول أرائه بهذه الكيفية , وذلك حتى يمكن فهمها بدقة وصواب .
أيضاً لكى يفهم
المرء تعليم القديس باسيليوس عن الزمن بصورة أفضل , يجب أن ينتبه للمنهج التربوى
والبناء فى تعليمه عن الزمن . ويستطيع القارئ لكتابات القديس باسيليوس أن يجد
مصطلحات خاصة بالزمن , لها وجود فى الفكر التأملى والفلسفات القديمة مثل "
الأزلى " , " الأبدى " , " المدى " , " الاتساع
" , " الزمن " . الا أن محتواها يختلف عن نظيرها من المصطلحات الفلسفية بشكل واضح جداً , حتى أنها تأخذ معنى
جديداً تماماً .
لقد ميز الآباء
" الأزلى " عن " الأبدى " , وهكذا فعل أتباع أريوس أيضاً ,
لكنهم فعلوا هذا , لكى يؤسسوا لفكرة أن الابن أقل من الآب . أما الآباء قد احفظوا
بهذا التمييز لكى يؤكدوا على وحدة الثالوث القدوس فى الجوهر , وعلى المسافة
الفاصلة بين العالم المرئى وغير المرئى . وبينما ترى الفلسفة أن " الأزلى
" , أقل من " الأبدى " يرى القديس باسيليوس أن " الأزلى
" هو فوق " الأبدى " , وفوق الزمن كله , وهذا أمر يفوق الأمكانيات
الذهنية للانسان . هذه الرؤية المضادة للفلسفة , ترجع الى أن استخدام مصطلح
" أبدى " فى الكتاب المقدس , هو لأعلان فترة زمنية كبيرة , وليس لأعلان
حالة لا زمنية . أما مصطلح " الأزلى " بالمفهوم اللاهوتى , فأنه ينسحب
على الثالوث القدوس فقط , الا أنه ينبغى أن لا يتطابق مع تعبير " غير المولود
" وهو المصطلح الخاص " بالآب " , كما فعل أفنوميوس وأتباعه , اذ
طابقوا بين المعنيين ( أى الأزلى , وغير
المولود ) , لذلك رفضوا أن ينسب للابن مصطلح " الأزلى " لأنه مولود .
لقد أقر القديس باسيليوس بأن تعبير " غير المولود " يخص ذاك الذى لا
بداية له , ولا علة لوجوده , بينما " الأزلى " , هو الذى له وجود
يتجاوز كل الزمن وكل الأبدية . وبناءاً
على ذلك فان كان الابن لا يحمل خاصية " غير المولود " الا أنه "
أزلى " , والآب أيضاً الذى يوصف بأنه " لا بداية له " أو "
غير المولود " , يوصف أيضاً بأنه أزلى " .
ولذلك لا ينبغى
أن يعتبر الابن أقل من الآب من حيث الوجود . والا سيكون ذلك معناه أن هناك مسافة
زمنية تفصل بين الابن المولود والآب غير المولود . وهذا يتعارض مع تعاليم الكتاب
المقدس الذى يؤكد أن " الابن مولود من الآب قبل كل الدهور " وأن "
كل شئ به كان وبغيره لك يكن شئ مما كان " ( يو 1: 3 ) .
يقول القديس
ديونيسيوس الأسكندرى : ] لم يكن هناك وقت , لم يكن فيه الآب أباً ,
وبالتالى لم يكن هناك وقت , لم يكن الابن فيه ابناً . لأن الابن مولود من الآب .
وبما أن الابن هو بهاء النور الازلى , فهو أزلى , أيضاً كالنور . لأن النور يعرف
من حقيقة كونه يضئ , ويستحيل وجود نور لا يضئ . هكذا فان شعاع الله الازلى يضئ
أزلياً , وهو كائن معه بلا بداية , ومولود دائماً منه , فهو نور من نور [ .
وما ينطبق على
الآب والابن , ينطبق أيضاً على الروح القدس , الذى يوصف أيضاً بأنه أزلى بطبيعته ,
لأنه واحد مع الآب والابن فى الجوهر . وهناك مواضع كثيرة فى الكتاب المقدس بعهديه
القديم والجديد , تؤكد على هذه الوحدة , وهذه الأزلية . نخلص من كل هذا أنه طالما
أن مصطلح " الأزلية " يشير الى الحالة التى هى الأبدية , وقبل الزمن فان
عقل الانسان لا يستطيع أن يدرك معنى البداية , ولا تستطيع قدرته على التخيل أن
تخترق الى حيث لا زمان , ولا مكان .
وهكذا فان
القديس باسيليوس وهو يقاوم الهراطقة الذين فصلوا زمنياً بين الآب والابن , يدعوا
الجميع الى قراءة ما أعلنه الروح القدس على فم القديس يوحنا البشير فى افتتاحية
انجيله " فى البدء كان الكلمة والكلمة كان عند الله وكان الكلمة الله "
( يو 1 : 1 ) .
اذ يرى القديس
باسيليوس أن هذه العبارة تقدم تعليماً واضحاً عن لاهوت الابن , فبداية الكلمة ليست
باقى البدايات . ثم يقول واذا كان هناك من ينادى بأن الابن لم يكن موجوداً ,
طالماً أنه ولد فى الزمن , أو كيف وجد قبل أن يولد , فما عليك الا أن تتمسك بعبارة
" فى البدء كان الكلمة " . فان لم نبتعد عن كلمة " كان " ,
فسوف يمكننا أن نمنع الأفكار الخبيثة من العبور الى أذهاننا , وسنسخر من تلك
الأفكار التى تثيرها الأرواح الشريرة , والتى تؤدى الى زعزعة ايمان الكثيرين ,
وذلك ان كنا نتحصن فى قوة هذه الكلمات " فى البدء كان الكلمة " . ثم
يضيف القديس باسيليوس قائلاً أن القديس يوحنا الانجيلى قد دعى الابن "
بالكلمة " , لكى يظهر الولادة من الآب بغير ألم , ولكى يعلن أن الاتحاد بين
الآب والابن هو منذ الأزل " ( فى البدء كان الكلمة " ,
للقديس باسيليوس , ترجمة دكتور سعيد حكيم ص 25 -
19 )
روابط هذه التدوينة قابلة للنسخ واللصق | |
URL | |
HTML | |
BBCode |