ما أهمية دراسة الفكر الآبائى ؟
قد تشكل الأجابة على هذا السؤال الصعوبة لدى البعض , لكنها ليست كذلك
بالنسبة للذين تحققوا من أهمية عمل الآباء
بالنسبة للكنيسة , وذلك للأسباب التالية :
السبب الأول : الذى يجعل من
الضرورى أن نتقدم وندرس الفكر الآبائى , هو أن نتعرف على تلك البصيرة الروحية التى
كانت تميزهم , وعلى غنى المسيح الذى ملأ كل كيانهم , وأن نتلامس مع تأثيرات الروح
القدس على شخصياتهم المقدسة , وأن نقترب
من جهادهم الروحى للوصول الى معرفة الحقيقة
, وأن نستمع لنبضات قلوبهم وهم يقتربون رويداً رويداً من معرفة الحق , وأن
نعيش معهم شيئاً من اختباراتهم الالهية , أى أن نتعايش مع حزنهم , فرحهم ,
واحباطاتهم , والآمهم , وتعثرهم , وانتصاراتهم , واحساسهم العميق بالآخر واختطافهم
الى السماء ومعرفة سر المسيح . وأن نتتبع قبولهم المطلق للتقليد الكنسى , وثقتهم
العميقة فى عمل الرح القدس , وأن نحيى شجاعتهم فى نحت مصطلحات لاهوتية جديدة .
السبب الثانى : أن نتعلم منهم منهج التفكير الصحيح , وطريقة
ترتيب الأولويات , وكيفية التعامل مع ثقافات العصر , وكيفية استخدامهم للغة ,
وأيضاً استخدامهم للفلسفات المتنوعة . وأن نتعرف على شجاعة نفوسهم , ونبلهم
وأحساسهم بالآخر , وهو أمر له أهمية قصوى فى حياة الآباء . وعندما نتلامس مع مسيرة
الآباء الروحية واللاهوتية , يجب أن نضع فى اعتبارنا حضور وعمل الروح القدس فى
نفوسهم , لأن الذى يتكفل باعلان الحقيقة الالهية , هو ذلك الروح المحى العامل فى
أولئك الذين يجاهدون باستقامة , فالحق الالهى لا يستعلن من خلال الكتابات المدرسية
النظرية . وهذا ما شهد به القديس غريغوريوس النيسى فى تفسيره لسفر ناشيد الأناشيد
, اذ يقول ] ان الروح القدوس هو الذى يعطينا القوة ويحرك
أفكارنا ويتقدم اقوالنا [
] 1 [ . هكذا نستطيع أن نعيش عمل
الحقيقة , حين نتقرب من هؤلاء الأباء المجاهدين المسوقين بنعمة الروح القدس ,
بينما لا تستطيع الكتابات النظرية أن تصنع شيئاً آخر , سوى اثراء معلوماتنا
ومعارفنا فقط . فحتى يكون الشخص حاملاً للتقليد , وصاحب كلمة على المستوى الشخصى ,
ويتصف بالشجاعة , ينبغى أن يكون قد تذوق وتلامس مع الخبرات الآبائية , ومع
معاناتهم والآمهم وجهادهم لأجل اعلان هذا هذا الحق الالهى والكرازة بالخلاص .
بمعنى أنه لكى يؤسس ويبدع المرء شيئاً حقيقياً ونافعاً لتتميم الخلاص فى حقل
التعليم اللاهوتى , فينبغى أن قلبه وفكره
شاهدين على هذه المواقف الأبائية من أجل اعلان الحق . شئ مثل هذا , كان
يحدث فى التاريخ اليونانى القديم حيث كان المواطنون يبدون اهتماماً بالغاً
بالتراجيديا التى كانت تؤدى على المسرح اليونانى , وكانت الدولة تعتبر متابعة كلمات التراجيديا من قبل المواطنين ,
أمر شديد الأهمية , حتى أنها خصصت تذاكر مجانية
لأولئك الذين ليست لديهم قدرة على دفع أثمانها . الموقف اليونانى هذا كان
موفقاً و صائباً جداً , لأنه أظهر مدى الاهتمام بكلمات وأحاديث التراجيديا
اليونانية . ومدى تقديرهم لهذه النوعية من الفكر الانسانى . ومع ذلك فان المشاهد
المأسوية التى كانت تؤدى فوق المسرح , والمعطيات التاريخية , والاسطورية
للتراجيديا القديمة , لم تكن معروفة للكافة , بل فقط لفئة قليلة من المثقفين . ] 2[
لقد احتل الآباء
فى الكنيسة , تلك المكانة التى كانت للمبدعين اليونانيين فى العمل التراجيدى
المسرحى , فكما كان اليونانى يعرف الأحداث , ويسعى فى أثر الدهشة المرتبطة
بالتراجيديا , هكذا يتعرف المؤمن على التعليم اللاهوتى للآباء , لكنه يطلب أن
يقترب من معرفة ولادة هذا التعليم , وأن يتذوق الخبرات الروحية التى عاشها الآباء
. هكذا فقط سيتعرف الباحث على التعاليم اللاهوتية الحقيقة , حتى يستطيع أن يمارسها
فى مواجهة المشكلات المعاصرة . لأن كتابات الآباء وثيقة الصلة بالعصر الحالى أيضاً
, اذ هى تتجاوز المكان والزمان , لأنها ممسوحة بنعمة خاصة من الروح القدس الذى قدس
أفكارهم , وكان ملهماً لهم فى تعاليمهم
وكتاباتهم .
السبب الثالث : الذى يدفع
باتجاه دارس كتابات الآباء , والتأكيد على أهميتها , هو أن هذه الكتابات هى مصدر موثوق فيه
للمعرفة اللاهوتية , المنبثقة من الايمان المستقيم الذى حفظه الآباء وعبروا عنه
بكل وضوح . فهذه الكتابات هى جزء أساسى من تقليد الكنيسة , ومصدر هام تستقى منه
الكنيسة نصوص الليتورجيات التى تستخدمها فى ممارسة الأسرار .
فالقداسات
الثلاثة المستعملة فى كنيستنا القبطية , الباسيلى , والغريغورى , والكيرلسى , هى
من وضع القديس باسيليوس الكبير اسقف كبادوكية , والقدس غريغوريوس اللاهوتى اسقف
القسطنطينية , والقدس كيرلس الكبير ( عمود الدين ) , كما أن نصوص ليتورجيات (
المعمودية , والميرون , ومسحة المرضى , والزواج , والكهنوت ) , ونصوص تقديس المياه
فى اللقان , وصلوات تدشين الكنائس , كل هذا من وضع آباء الكنيسة فى القرون الأولى
. كما أن كتابات الآباء تعد مصدراً هاماً ورئيسياً فى تفسير أسفار الكتاب المقدس
بعهديه القديم والجديد .
وأخيراً فان
كتابات الآباء تحمل أهمية لها طبيعة خاصة , تتصل بالموضوعات التى تناولتها , فقد
كتبوا فى موضوعات شتى , وهذه الموضوعات وان كانت لها علاقة مباشرة بظروف عصرهم ,
الا أنها أيضاً نافعة لمعالجة مشاكل عصرنا الحالى مثل : الحديث عن كيفية معاملة
السلطة الحاكمة , والحديث عن وقت الحرب ووقت السلم والمشاكل الاجتماعية مثل :
الفقر والغنى , والجهل والمرض , أهمية العمل , المجاعات , الزواج والطلاق , تنشئة
الابناء , معاملة الوالدين , علاقة الانسان بالبيئة الخ . وأخيراً فان دراسة
الآباء توضح الدور الهام الذى لعبوه فى المجامع المسكونية , بشأن صياغة القرارت
الصادرة عن هذه المجامع , وتحديد مضمون الايمان المستقيم الذى أجمعت عليه الكنيسة
وتم قبوله من الكافة .
---------------------------
( 1
) PG 44 , 1010 AB , 1B
( 2 ) Στυλιανός Γ.
παπαδοπόλου
, πατρολογία , του
. Α . 1882. Σελ.
روابط هذه التدوينة قابلة للنسخ واللصق | |
URL | |
HTML | |
BBCode |