الجمعة، 25 مارس 2016

الاله المتجسد وسر الحب الالهى



الرب يتصرف كأله وانسان فى نفس الوقت باعتباره الاله المتجسد :
أقام الرب يسوع بيده ابنة يايرس , لأن قوته الالهية أعادت لها الحياة , وسارت قدماه البشريتان على سطح الماء , لأنه بقوة لاهوته جعل الماء صلباً , أو لأنه أعطى لقدميه امكانية السير على الماء , وخضع طواعية لكل نتائج الخطية , وصار :" رجل أوجاع " ( اش 53 : 3 ) 


لذلك كانت حياته على الارض اذلالاً مستمراً :" ظلم أما هو فتذلل " ( اش 53 : 7 ) ,اذ خضع للجوع والعطش والاعياء والحزن والآلام , وأخيراً للموت على الصليب . ولكنه أظهر مجد لاهوته قبل آلامه على جبل التجلى , وذلك لكى يتشجع تلاميذه عندما يرونه متألماً مصلوباً مهاناً . وقد وجد هذا المعنى فى أحد الحان الكنيسة الذى يبدو أنه قد نسى واندثر بمرور الزمن فى خضم العواصف العاتية التى كادت تحطم سفينتها , ويقول اللحن :
]  لقد تجليت على الجبل أيها المسيح ربنا , وقد أدهش مجدك تلاميذك لكى عندما يرونك مصلوباً يفهمون أن آلامك كانت باختيارك , ولكى يعلنوا للعالم أنك انت حقاً بهاء مجد الآب [ ( 1 )
ولقد كرم تقليد كنيستنا عيد التجلى حتى أنه صار أحد المفاتيح التى بها ندرك أن ناسوت المسيح غير منفصل عن لاهوته , الذى فيه " يحل كل ملء اللاهوت جسدياً " ( كو 9 : 2 ) , ولا سيما اذا قورن تجلى الرب بظهوراته بعد قيامته ممجداً ليس بلاهوته فحسب , بل بلحمه وعظامه : " جسونى وانظروا , فان الروح ليس له لحم وعظام كما ترون لى " ( لو 24 : 39 ) . كما تكرم الكنيسة أيضاً عيد الابيفانيا ( الظهور الالهى : الغطاس ) , لأن الثالوث القدوس قد استعلن فى التجلى والابيفانيا , لأن صوت الآب الذى سمع فى كل منهما , والروح القدس الذى حل فى الابيفانيا على هيئة حمامة كان حاضراً أيضاً  فى التجلى على هيئة سحابة نيرة ظللت على الرسل  . وحتى آلام الرب وموته ودفنه , صارت كلها أفعال انتصاريه مضيئة بقوة لاهوته , لما قام وأظهر نفسه حياً لتلاميذه ببراهين كثيرة , ثم صعد الى السماء أمامهم  وأخذته سحابه عن أعينهم .
ويقول القديس يوحنا ذهبى الفم :
] عمل الرب أموراً عديدة بثمة طريقة بشرية , فكما أراد الجميع أن يومن أنه هو الله , هكذا أيضاً  أراد أن يؤمن الجميع أنه وهو الله قد اتخذ لنفسه جسداً بشرياً . ولذلك قال لتوما بعد قيامته : " هات أصبعك الى هنا وأبصر يدى , وهات يدك وضعها فى جنبى " ( يو 20 : 27 ) , كما قال للتلاميذ  : " جسونى وأنظروا , فان الروح ليس له لحم وعظام كما ترون لى " ( لو 24 : 39 ) [ ( 2 )
والقديس غريغوريوس النزينزى يتأمل فى مفارقات  حياة الرب كأله متجسد , فيقول :
] المولود  من الآب قبل كل الدهور ولد من عذراء . فالولادة الأولى الهية والثانية بشرية . فى الأولى لم يكن له أم , وفى الثانية لم يكن له أب , وكل منهما يتعلق بألوهيته . لقد سكن فى الرحم , ولكن النبى ( المعمدان ) تعرف عليه وهو لا يزال فى الرحم , حيث ارتكض أمام كلمة الله الذى جاء لأجله . لقد لف بالأقماط , ولكنه خلع أكفان القبر بقيامته . لقد وضع فى مذود ولكنه تمجد من الملائكة . اعلن عنه بواسطة نجم , وسجد له المجوس . لماذا انت منزعج من ذاك الذى احضر أمام بصرك ؟ لأنك لا تريد أن تنظر الى ذاك الذى احضر الى عقلك ! لقد طرد منفياً الى مصر , ولكنه طرد أصنام مصر ( 3 ) . لم يكن له منظر ولا جمال فى نظر اليهود ( اش 53 : 2 ) , ولكنه فى نظر داود النبى كان : " أبرع جمالاً من بنى البشر " ( مز 45 : 2 ) , وعلى جبل التجلى لمع مثل البرق وصار أسطع من نور الشمس ( مت 17 : 2 ) , وكذا أطلعنا على سر المستقبل .
وتعمد كانسان , ولكنه محا الخطايا كاله , ليس لأنه احتاج الى طقوس التطهير لنفسه , ولكن لكى يقدس عنصر الماء . جرب كانسان , ولكنه غلب كاله , وهو يأمرنا أن نتهلل , لأنه غلب العالم ( يو 16 : 33 ) . جاع ولكنه أطعم الآلاف , فهو الخبز الذى من السماء الذى يعطى الحياة .  عطش ولكنه صاح : " ان عطش أحد فليقبل الى ويشرب " ( يو 7 : 37 ) , بل انه وعد الذين يؤمنون به أن تجرى من بطونهم أنهار ماء حى ( انظر يو 4 : 14 , 7 : 38 ) . تعب , ولكنه هو راحة التعابى والثقيلى الأحمال ( مت 11 : 28 ) . ثقل عليه النوم , لكنه مشى بخفة على الماء ( مت 8 : 24 ) انتهر الريح , وجعل بطرس خفيفاً عندما ابتدأ يغرق ( مت 14 : 25 و 30 ) . دفع ضريبة , ولكن كان ذلك من جوف سمكة ( مت 17 : 24 ) . نعم , فهو ملك على الذين طلبوا منه هذه الضريبة ( يو 19 : 19 ) ... سأل أين وضع لعازر كانسان , ولكنه أقامه لأنه هو الله ... كخروف سيق الى الذبح , لكنه هو راعى اسرائيل , والآن هو راعى العالم كله .  كحمل كان صامتاً مع أنه هو " الكلمة " , وقد كرز به بواسطة " الصوت الصارخ فى البرية " . سحق وجرح , لكنه هو الشافى لكل مرض وضعف ... وقد  خلص حتى اللص المصلوب معه ... وضع حياته , لكن لديه القدرة أن يأخذها أيضاً . لقد انشق حجاب الهيكل , لأن أبواب السماء السرية قد انفتحت , والصخور تشققت والاموات قامت . مات ولكنه هو معطى الحياة , وبموته حطم المو ت ! [ ( 4 ) .
رغم أن ابن الله ولد كطفل وعلق على الصليب وسجى فى القبر , فهو لم يكف عن التحكم بكامل قدرته فى الخليقة كلها بسبب لاهوته الذى الا يعتريه أى تغيير , وهو يهدف من وراء ذلك  الى خلقة الانسان من جديد .
ويقول القديس غريغوريوس النزينزى :
] الابن الوحيد الغير ممتزج بجسد أو اى شئ هيولى , اتخذ ناسوتاً فى هذه الأيام الاخيرة لأجل خلاصنا . قابلاً للألم بالجسد وغير قابل للألم بلاهوته , محدوداً بالجسد وغير محدوداً بالروح ...فى نفس الوقت مدرك وغير مدرك , حتى أنه بذات أقنومه الواحد – اذ هو انسان كامل وهو بآن واحد الله -  يمكن للبشرية الساقطة  فى الخطية كلها أن تخلق من جديد [ ( 5 )
والتجسد الالهى لا يفهم بدون الصليب . فعقيدة التجسد يجب أن تنطوى على عقيدة الكفارة , لأن استعلان الله فى المسيح لم يكمل الهدف منه الا بعد موته وقيامته التى اعطت لتجسده مغزاه الحقيقى . لذلك اتضح لنا بهذا التدبير الالهى مدى اهتمام الله بالانسان , وحل مشكلته الاساسية وهى انفصاله عن الله بسبب الخطية . لقد رأى الله مسبقاً خطية آدم , وكان ابن الله هو " الخروف الذى ذبح منذ تأسيس العالم " ( رؤ 13 : 8 حسب اليونانى ) بالمشيئة المسبقة للثالوث القدوس . لذلك فلا ننتظر أن نفهم أى شئ منفصلاً عن صليب المسيح . ان سر تجسد كلمة الله يحوى فى ذاته معنى جميع رموز وأسرار الكتاب المقدس مع المعنى الخفى لكل الخليقة المحسوسة الظاهرة . ان الذى يعرف سر الصليب والقبر , بل وسر القيامة أيضاً , يدرك الغاية التى لأجلها خلق الله كل الأشياء منذ البدء . ان عمل المسيح هو تدبير " شركة السر المكتوم منذ الدهور فى الله ... حسب قصد الدهور الذى صنعه فى المسيح يسوع ربنا " ( أف 3 : 9 – 11 ) انه عمل مشيئة وسر الحب الالهى .
-------------------------------- 
( 1 ) V. Lossky , The Mystical Theology of the Eastern Church,  p148
( 2 ) عظة 31 على شرح انجيل يوحنا .
( 3 ) ربما يشير بذلك الى التقليد المعروف : أنه بمجئ الطفل يسوع الى مصر , سقطت الأصنام أمامه وتحطمت . ( رجع : رسالة القديس اثناسيوس الى مكسيموس " 61 : 4 , " تجسد الكلمة 36 : 4 ) .
( 4 ) من العظة اللاهوتية الثالثة : Oration XXX; On the Son , XIX,XX.
)5 ) Lettre to Cledonius (EP. C1) P. 39
روابط هذه التدوينة قابلة للنسخ واللصق
URL
HTML
BBCode
التعليقات
0 التعليقات

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق