الرب يتصرف كأله وانسان فى نفس الوقت باعتباره الاله
المتجسد :
أقام الرب يسوع بيده ابنة يايرس , لأن قوته الالهية أعادت لها الحياة ,
وسارت قدماه البشريتان على سطح الماء , لأنه بقوة لاهوته جعل الماء صلباً , أو
لأنه أعطى لقدميه امكانية السير على الماء , وخضع طواعية لكل نتائج الخطية , وصار
:" رجل أوجاع " ( اش 53 : 3 )
لذلك كانت حياته
على الارض اذلالاً مستمراً :" ظلم أما هو فتذلل " ( اش 53 : 7 ) ,اذ خضع
للجوع والعطش والاعياء والحزن والآلام , وأخيراً للموت على الصليب . ولكنه أظهر
مجد لاهوته قبل آلامه على جبل التجلى , وذلك لكى يتشجع تلاميذه عندما يرونه
متألماً مصلوباً مهاناً . وقد وجد هذا المعنى فى أحد الحان الكنيسة الذى يبدو أنه
قد نسى واندثر بمرور الزمن فى خضم العواصف العاتية التى كادت تحطم سفينتها , ويقول
اللحن :
] لقد تجليت على الجبل أيها المسيح ربنا , وقد
أدهش مجدك تلاميذك لكى عندما يرونك مصلوباً يفهمون أن آلامك كانت باختيارك , ولكى
يعلنوا للعالم أنك انت حقاً بهاء مجد الآب [ ( 1 )
ولقد كرم تقليد
كنيستنا عيد التجلى حتى أنه صار أحد المفاتيح التى بها ندرك أن ناسوت المسيح غير
منفصل عن لاهوته , الذى فيه " يحل كل ملء اللاهوت جسدياً " ( كو 9 : 2 )
, ولا سيما اذا قورن تجلى الرب بظهوراته بعد قيامته ممجداً ليس بلاهوته فحسب , بل
بلحمه وعظامه : " جسونى وانظروا , فان الروح ليس له لحم وعظام كما ترون لى
" ( لو 24 : 39 ) . كما تكرم الكنيسة أيضاً عيد الابيفانيا ( الظهور الالهى :
الغطاس ) , لأن الثالوث القدوس قد استعلن فى التجلى والابيفانيا , لأن صوت الآب
الذى سمع فى كل منهما , والروح القدس الذى حل فى الابيفانيا على هيئة حمامة كان
حاضراً أيضاً فى التجلى على هيئة سحابة
نيرة ظللت على الرسل . وحتى آلام الرب
وموته ودفنه , صارت كلها أفعال انتصاريه مضيئة بقوة لاهوته , لما قام وأظهر نفسه
حياً لتلاميذه ببراهين كثيرة , ثم صعد الى السماء أمامهم وأخذته سحابه عن أعينهم .
ويقول القديس
يوحنا ذهبى الفم :
] عمل الرب
أموراً عديدة بثمة طريقة بشرية , فكما أراد الجميع أن يومن أنه هو الله , هكذا
أيضاً أراد أن يؤمن الجميع أنه وهو الله
قد اتخذ لنفسه جسداً بشرياً . ولذلك قال لتوما بعد قيامته : " هات أصبعك الى
هنا وأبصر يدى , وهات يدك وضعها فى جنبى " ( يو 20 : 27 ) , كما قال للتلاميذ : " جسونى وأنظروا , فان الروح ليس له لحم
وعظام كما ترون لى " ( لو 24 : 39 ) [ ( 2 )
والقديس
غريغوريوس النزينزى يتأمل فى مفارقات حياة
الرب كأله متجسد , فيقول :
]
المولود من الآب قبل كل الدهور ولد من
عذراء . فالولادة الأولى الهية والثانية بشرية . فى الأولى لم يكن له أم , وفى
الثانية لم يكن له أب , وكل منهما يتعلق بألوهيته . لقد سكن فى الرحم , ولكن النبى
( المعمدان ) تعرف عليه وهو لا يزال فى الرحم , حيث ارتكض أمام كلمة الله الذى جاء
لأجله . لقد لف بالأقماط , ولكنه خلع أكفان القبر بقيامته . لقد وضع فى مذود ولكنه
تمجد من الملائكة . اعلن عنه بواسطة نجم , وسجد له المجوس . لماذا انت منزعج من
ذاك الذى احضر أمام بصرك ؟ لأنك لا تريد أن تنظر الى ذاك الذى احضر الى عقلك ! لقد
طرد منفياً الى مصر , ولكنه طرد أصنام مصر ( 3 ) . لم يكن له منظر ولا جمال فى نظر
اليهود ( اش 53 : 2 ) , ولكنه فى نظر داود النبى كان : " أبرع جمالاً من بنى
البشر " ( مز 45 : 2 ) , وعلى جبل التجلى لمع مثل البرق وصار أسطع من نور
الشمس ( مت 17 : 2 ) , وكذا أطلعنا على سر المستقبل .
وتعمد كانسان ,
ولكنه محا الخطايا كاله , ليس لأنه احتاج الى طقوس التطهير لنفسه , ولكن لكى يقدس
عنصر الماء . جرب كانسان , ولكنه غلب كاله , وهو يأمرنا أن نتهلل , لأنه غلب
العالم ( يو 16 : 33 ) . جاع ولكنه أطعم الآلاف , فهو الخبز الذى من السماء الذى يعطى
الحياة . عطش ولكنه صاح : " ان عطش
أحد فليقبل الى ويشرب " ( يو 7 : 37 ) , بل انه وعد الذين يؤمنون به أن تجرى
من بطونهم أنهار ماء حى ( انظر يو 4 : 14 , 7 : 38 ) . تعب , ولكنه هو راحة
التعابى والثقيلى الأحمال ( مت 11 : 28 ) . ثقل عليه النوم , لكنه مشى بخفة على
الماء ( مت 8 : 24 ) انتهر الريح , وجعل بطرس خفيفاً عندما ابتدأ يغرق ( مت 14 :
25 و 30 ) . دفع ضريبة , ولكن كان ذلك من جوف سمكة ( مت 17 : 24 ) . نعم , فهو ملك
على الذين طلبوا منه هذه الضريبة ( يو 19 : 19 ) ... سأل أين وضع لعازر كانسان ,
ولكنه أقامه لأنه هو الله ... كخروف سيق الى الذبح , لكنه هو راعى اسرائيل , والآن
هو راعى العالم كله . كحمل كان صامتاً مع
أنه هو " الكلمة " , وقد كرز به بواسطة " الصوت الصارخ فى البرية
" . سحق وجرح , لكنه هو الشافى لكل مرض وضعف ... وقد خلص حتى اللص المصلوب معه ... وضع حياته , لكن
لديه القدرة أن يأخذها أيضاً . لقد انشق حجاب الهيكل , لأن أبواب السماء السرية قد
انفتحت , والصخور تشققت والاموات قامت . مات ولكنه هو معطى الحياة , وبموته حطم
المو ت ! [ ( 4 ) .
رغم أن ابن الله
ولد كطفل وعلق على الصليب وسجى فى القبر , فهو لم يكف عن التحكم بكامل قدرته فى
الخليقة كلها بسبب لاهوته الذى الا يعتريه أى تغيير , وهو يهدف من وراء ذلك الى خلقة الانسان من جديد .
ويقول القديس
غريغوريوس النزينزى :
] الابن
الوحيد الغير ممتزج بجسد أو اى شئ هيولى , اتخذ ناسوتاً فى هذه الأيام الاخيرة
لأجل خلاصنا . قابلاً للألم بالجسد وغير قابل للألم بلاهوته , محدوداً بالجسد وغير
محدوداً بالروح ...فى نفس الوقت مدرك وغير مدرك , حتى أنه بذات أقنومه الواحد – اذ
هو انسان كامل وهو بآن واحد الله - يمكن
للبشرية الساقطة فى الخطية كلها أن تخلق
من جديد [ ( 5 )
والتجسد الالهى لا يفهم بدون الصليب
. فعقيدة التجسد يجب أن تنطوى على عقيدة الكفارة , لأن استعلان الله فى المسيح لم
يكمل الهدف منه الا بعد موته وقيامته التى اعطت لتجسده مغزاه الحقيقى . لذلك اتضح
لنا بهذا التدبير الالهى مدى اهتمام الله بالانسان , وحل مشكلته الاساسية وهى انفصاله
عن الله بسبب الخطية . لقد رأى الله مسبقاً خطية آدم , وكان ابن الله هو "
الخروف الذى ذبح منذ تأسيس العالم " ( رؤ 13 : 8 حسب اليونانى ) بالمشيئة
المسبقة للثالوث القدوس . لذلك فلا ننتظر أن نفهم أى شئ منفصلاً عن صليب المسيح .
ان سر تجسد كلمة الله يحوى فى ذاته معنى جميع رموز وأسرار الكتاب المقدس مع المعنى
الخفى لكل الخليقة المحسوسة الظاهرة . ان الذى يعرف سر الصليب والقبر , بل وسر
القيامة أيضاً , يدرك الغاية التى لأجلها خلق الله كل الأشياء منذ البدء . ان عمل
المسيح هو تدبير " شركة السر المكتوم منذ الدهور فى الله ... حسب قصد الدهور
الذى صنعه فى المسيح يسوع ربنا " ( أف 3 : 9 – 11 ) انه عمل مشيئة وسر الحب
الالهى .
--------------------------------
( 1 ) V. Lossky , The Mystical Theology of the Eastern Church, p148
( 2 ) عظة 31 على شرح انجيل يوحنا .
( 3 ) ربما يشير
بذلك الى التقليد المعروف : أنه بمجئ الطفل يسوع الى مصر , سقطت الأصنام أمامه
وتحطمت . ( رجع : رسالة القديس اثناسيوس الى مكسيموس " 61 : 4 , " تجسد
الكلمة 36 : 4 ) .
( 4 ) من العظة
اللاهوتية الثالثة : Oration XXX; On
the Son , XIX,XX.
)5 ) Lettre to Cledonius (EP. C1) P. 39
روابط هذه التدوينة قابلة للنسخ واللصق | |
URL | |
HTML | |
BBCode |