الثلاثاء، 5 يناير 2016

نجم بيت لحم


قبل عيد الميلاد عام 1603م بأيام قليلة , وفى ليلة 17 ديسمبر بالتحديد كان صاحب الفخامة الأمبراطورى يوحنا كيبلر الرياضى والفلكى جالساً فى سكون الليل فى أعالى مقاطعة مولدافيا ( الواقعة شرق رومانيا ) فى مدينة براج ( عاصمة تشيكوسلوفاكيا حالياً ) , يتطلع فى صفحة السماء بتلسكوبه المتواضع ليراقب اقتراب كوكبين معاً . 



وتسمى ظاهرة تزامن جرميين سماويين ليلتقيا معاً عند درجة واحدة فى منطقة البروج – باللغة الفلكية – " اقتراناً " . فأحياناً يتحركان كوكبان ليصيرا قريبين أشد الاقتراب لبعضهما البعض حتى أنهما يبدوان كأنهم نجم واحد أكثر سطوعاً وحجماً . وكان كوكبا " زحل " ( ساتورن saturn ) , والمشترى ( جوبيتر Jupiter ) على ميعاد فى تلك الليلة لكى يلتقيا  معاً عند موضع برج الحوت (  pices ) .
وفجأة تذكر كيبلر بينما كان يلقى نظرة على مذكراته , ما قرأه فى كتابات " الرابى أبار بانل Abarbanel ) مشيراً الى تلك القوة الخفية غير العادية التى نسبها علماء الفلك اليهود لهذا البرج . فقد قالوا أن المسيا سيأتى عند اقتران زحل مع المشترى فى برج الحوت .
فهل كان قد حدث مثل هذا الاقتران عند ميلاد المسيح كما لاحظه كيبلر عام 1603م ؟ هل أعلن هذا الاقتران -  كما كتب كيبلر فيما بعد – عن مجئ " نجم بيت لحم " الحقيقى ؟ أو أن هذا الاقتران ذاته كان هو " نجم بيت لحم " كما اعتقد بعض الناس فى وقت متأخر معتمدين على كيبلر كمصدر لأعتقادهم ؟ !
أخذ كيبلر يراجع حساباته مرات , وكان نتيجة حساباته أن هذا الاقتران قد وقع ثلاث مرات فى سنة واحدة . أما الحسابات الفلكية فقد حددت ألتوقيت سنة 7 قبل الميلاد الا أنه حسب جدول النجوم يجب أن يكون سنة 6قبل الميلاد , وكان كيبلر مرجحاً سنة 6 ق.م , وأرخ بناءً على ذلك أن يكون حبل القديسة مريم العذراء سنة 7 ق.م .
وقد نشر اكشافه المذهل هذا فى العديد من الكتب , الا أن هذا النابغة المستنير , الذى وضع قوانين الكواكب المعروفة  باسمه , انغمس بافراط فى دنيا التصوف والتأمل المبهم . ونتج عن ذلك أن نبذت آراء كيبلر العلمية مدة طويلة من الزمن , ثم تجاهلوها فى النهاية . ولم يتذكرها الفلكيون ثانية الا فى القرن التاسع عشر .
وأخيراً , وفى سنة 1925 م استطاع البحاثة الالمانى ( ب. شنابل P. Schnabel ) أن يفك مغاليق الشفرة فى " الأوراق " بالحروف المسمارية من العصر البابلى الحديث – Neo – Babylonian   والتى وجدت فى معهد مهنى مشهور فى العالم القديم , وهو مدرسة التنجيم فى زيبار " Sippar   " ببلاد بابل . ففى وسط قوائم لا تنتهى من من التواريخ المملة للأرصاد اعرضته ملاحظة عن تنظيم الكواكب فى برج الحوت . وكان المشترى وزحل مرصودين بكل اعتناء على مدة خمسة شهور . وكانت السنة هى نفسها 7 ق.م  كما هى محسوبة فى تقويمنا .
وهكذا صار على علماء الآثار والمؤرخين أن يعيدوا تصورهم عن عصير سحيق فى القدم , بجهود جبارة , من الآثار والوثائق , ومن الاكتشافات المتفرقة وأجزاء المخطوطات . الا أن العملية أبسط جداً بالنسبة للفلكى الحديث , ففى استطاعته أن يدير الى الوراء الساعة الكونية عندما يريد . ويمكنه بواسطة البلانيتاريوم ( 1 ) أن ينظم سماء النجوم تماماً كما كانت منذ الآف السنين بالنسبة لسنة محددة وشهر محدد بل ويوم محدد , كما يمكنه أيضاً حساب تنظيم النجوم فى أى زمان من الماضى بنفس الدقة .
وهكذا ثبت أن المشترى وزحل قد التقيا فى برج الحوت سنة 7 ق.م , كما اكتشف كيبلر من قبل , وأنهما تقابلا فعلاً ثلاث مرات فى تلك السنة . وبينت الحسابات الرياضية -  فوق ذلك – أن هذا الاقتران الذى تم ثلاث مرات كان ظاهراً بوضوح للناظر من منطقة البحر الابيض المتوسط بصفة خاصة .
أما جدول التوقيت الزمنى  لالتقاء الكوكبين , بعد استخلاصه من نظام التواريخ المملة للحسابات الفلكية الحديثة , فيبدو على هذه الصورة :
فى حوالى نهاية شهر فبراير سنة 7 ق. م . بدأ التجمع حيث تحرك المشترى من برج الدلو متجهاً نحو زحل فى برج الحوت . ولما كانت الشمس فى ذلك الوقت عند برج الحوت فقد حجب ضوءها البرج . ولم يظهر صعود الكوكبين معاً الا فى 12 ابريل من تلك السنة عند ظهور أول نجم فى فجر ذلك اليوم ( 2 ) وبفارق 8 دراجات طولية .
وفى يوم 29 مارس حدث الأقتران الأول -  وكان منظوراً فى السماء لمدة ساعتين كاملتين فى وضح النهار -  عند الدرجة الواحدة والعشرين من برج الحوت وبفارق صفر طولياً و 98ر . درجة عرضية .
وتم الاقتران الثانى فى 3 أكتوبر عند الدرجة 18 من برج الحوت .
وفى الرابع من ديسمبر تم الاقتران الثالث والأخير بين المشترى وحل , وكان هذه المرة عند الدرجة 16 من برج الحوت , وفى آخر يناير سنة 6 ق. م  تحرك كوكب المشترى خاجاً من برج الحوت الى داخل برج الحمل .
ومن هنا كان قول المجوس : " رأينا نجمه فى المشرق ... "( مت 2 : 2 ) . ويجب ملاحظة أن " المشرق " هنا قد جاءت فى الأصل اليونانى فى الصيغة المفردة http://upload.konozalsamaa.com/do.php?imgf=1420909094571.gif
 , وليس فى الصيغة الجمع http://upload.konozalsamaa.com/do.php?imgf=1420909094571.gif
 أى " المشارق " , والصيغة المفردة تحمل مفهوماً خاصاً عند الفلكيين , فى كونها تعنى رصد أول نجم يظهر فى السماء قبل بزوغ شمس النهار , الذى يسمونه " البزوغ الهيلياكى = Heliacal rising  "  .
فاذا أردنا اذن ترجمة واضحة للآية مت 2: 2 , فيجب أن تكون هكذا " ... رأينا نجمه عند بزوغ الآشعة الاولى للفجر . " (3 ) فانها بذلك تتفق مع الحقائق الفلكية . هذا اذا افرضنا أن نجم برج الحوت -  موضوع المناقشة -  هو بالفعل النجم الذى رآه المجوس , نجم بيت لحم , نجم ميلاد المسيح , فلا شك أن الأمر مازال موضع بحث ودراسة . وربما تساعدنا الاعتبارات الآتية بعض الشئ .
استطاع المنجمون القدماء فى الشرق بتحديقهم فى السماء أن يلحقوا دلالة خاصة بكل نجم . فالنسبة للكلدانيين كان برج الحوت هو علامة للغرب , أى لبلاد البحر الأبيض المتوسط : وفى التقليد اليهودى كان رمزاً لاسرائيل , ورمزاً للمسيا . ويقع برج الحوت فى نهاية المسار الشمسى القديم وفى بداية مسارها الجديد ( 4 ) . وما هو أجمل من ذلك أنهم رأوا فيه رمزاً لنهاية عصر قديم وبداية عهد جديد ؟!
أما المشترى فكانت كل الأمم ترى فيه رمزاً لنجم الحظ والنجم الملكى . وحسب التقليد اليهودى القديم كانوا يفترضون فى كوكب زحل أنه يحمى اسرائيل : وقد عادله " تاكيتوس Tacitus "(5 ) باله اليهود !  أما المنجمون البابليون فقد احتسبوا هذا الكوكب بأنه النجم الخاص بالبلاد المجاورة لسوريا وفلسطين .
ومنذ أيام نبوخذناصر عاش الآف من اليهود فى بلاد بابل . وكثيرون منهم درسوا فى مدرسة التنجيم فى " زيبار " . ولابد أن هذا اللقاء بين المشترى وزحل , حارس اسرائيل , وفى برج الحوت , الخاص ببلاد الغرب , وبالمسيا أيضاً , لأبد أنه قد أثار انتباه المنجمون اليهود . لأن ذلك يدل -  حسب اساليب التفكير عند المنجمين -  على قيام ملك قوى فى بلاد الغرب , أرض آبائهم وكان هذا هو السبب فى رحلة الفلكيين من بلاد المشرق , لكى يختبروا ذلك  بأنفسهم ويروه بأعينهم .
وهذا ما يمكن أن يكون هو مجرى الأحداث : فى سنة 29 مايو من سنة 7 ق.م . لاحظ الفلكيون الاقتران الأول بين الكوكبين من فوق سطح مدرسة المنجمين فى زيبار . وفى ذلك الوقت كان الحر لا يطاق فى بلاد ما بين النهرين . فالصيف ليس وقتاً مناسباً للرحلات الطويلة الشاقة . ومن ناحية اخرى فقد كانوا يعلمون عن الاقتران الثانى فى الثالث من شهر اكتوبر , اذ كان فى امكانهم أن يتنبأوا عن الاقتران مقدماً وبكل دقة , تماماً كما يتنبأ الفلكيون عن المواعيد المستقبلة لخسوف الشمس والقمر . وربما كانت حقيقة وقوع يوم الكفارة اليهودى فى 3 أكتوبر محبذاً لهم للبحث فى رحلتهم فى ذلك الميعاد . وكان السفر فى الطرق الممهدة للقوافل , عملية تحتاج الى تمهل وروية , حتى ولو كان السفر بالجمال التى كانت أسرع وسائل النقل حينذاك . واذا قدرنا لهذه الرحلة ستة أسابيع , فيكون وصول المجوس لأورشليم فى أواخر شهر نوفمبر .
-       " أين هو المولود ملك اليهود فاننا رأينا نجمه فى المشرق واتينا لنسجد له " . " فلما سمع هيرودس الملك اضطرب وجميع اورشليم معه " ( مت 2 : 2 -  3 ) .
بالنسبة لهؤلاء الفلكيين الشرقيين لأبد أن يكون هذا هو السؤال الأول والواضح الذى أثار قلقاً مروعاً فى اورشليم . وكانوا لا يعرفون شيئاً عن التنجيم فى المدينة المقدسة . وكان هذا الخبر بالنسبة لهيرودس الطاغية المكروه بمثابة انذار  بخطر أت . فان اعلان ميلاد ملك جديد يضع سلطانه موضع المناقشة . أما الشعب -  من الجانب الآخر -  فكان سروره هائل , كما يبدو من مصلدر تاريخية اخرى . حتى أنه بعد حوالى سنة من هذا الاقتران بين الكوكبين – الذى تكلمنا عنه -  قامت حركة مسيانية قوية . فقد سجل المؤرخ اليهودى  فلافيوس يوسيفوس أنه فى حوالى ذلك الوقت من الزمان راجت اشاعة بأن الله قد قرر أن يضع نهاية لحكم الرومان الغرباء , وأنه قد ظهرت علامة من السماء أعلنت عن مجئ ملك يهودى . ولم يكن هيرودس المعين من الرومان لم يكن يهودياً , فى الواقع , بل كان أدومياً .
لم يتردد هيرودس بل " جمع كل رؤساء الكهنة وكتبة الشعب وسألهم أين يولد المسيح " فبحثوا فى الكتب المقدسة العتيقة لأمتهم ووجدوا الاشارة الى ذلك متضمنة فى سفر النبى ميخا الذى عاش منذ 700 سنة فى مملكة يهوذا : " وأما انت يا بيت لحم أفراتة وانت صغيرة أن تكونى بين الوف يهوذا  , فمنك يخرج لى الذى يكون متسلطاً على اسرائيل ومخارجه منذ القديم منذ أيام الأزل " ( ميخا 5 : 2 )
" حينئذ دعا هيرودس المجوس ... ثم أرسلهم الى بيت لحم " ( مت 2 : 4 – 8 ) . واذا اقترن المشترى مع زحل للمرة الثالثة فى برج الحوت فى الرابع من ديسمبر " فرحوا فرحاً عظيماً جداً " , ومضوا قدماً نحو بيت لحم , " واذ النجم الذى رأوه فى المشرق يتقدمهم ." ( مت 2 : 10 -  9 )
وتقع بيت لحم فى الطريق الى حبرون نحو خمسة أميال من أورشليم , وهى نفسها بيت لحم يهوذا المعروفة منذ القدم . هذا الطريق القديم الذى اجتاز فيه ابراهيم ذات يوم , يمتد أخذاً اتجاه الشمال الى الجنوب تقريباً . ويبدو أنه لما حدث هذا الاقتران الثانى بين الكوكبين المشترى وزحل , ظهرا كما لو كان ذابا فى نجم واحد عظيم ساطع , حتى أنهما كانا منظرين بالعين فى ضياء عسق الليل فى اتجاه الجنوب , وهكذا كان مجوس المشرق فى طريقهم من أورشليم الى بيت لحم ( جنوباً ) يرون النجم الساطع أمام عيونهم كل الوقت , كما يقول الانجيل , فقد كان النجم فعلاً " يتقدمهم "
وهكذا فى كل سنة يسمع ملايين الناس فى كل أنحاء العالم قصة " مجوس المشرق " . وصار " نجم بيت لحم " , الرمز المرتبط دائماً بعيد ميلاد السيد المسيح , منطبعاً على جوانب اخرى من الحياة . ففى قواميس سير مشاهير الرجال وعلى شواهد المقابر توضع علامة النجم بجانب تاريخ الميلاد .
------------------------- 
(  1  )  البلانيتاريوم :  جهاز خاص بالفلكيين يظهر حركات الشمس والقمر والكواكب السيارة والنجوم بتسليط داخل قبة فيه
(  2  )   يعبر الفلكيون عن لحظة ظهور أول نجم فى الفجر باصطلاح معين يعرف بالانجليزية  Heliacal  أى  بالقرب من الشمس , حيث   Helios  باليونانية معناها الشمس .
(  3  )  ويتمشى هذا النص مع الآيات القائلة " قبل كوكب الصبح ولدك "( مز110 :  3 )  ,  "  أنا كوكب الصبح المنير " ( رؤ 22 : 16 ) .
(  4  )  الشمس لا تتحرك طبعاً , ولكن الكلام هنا حسب المفهوم القديم  وهو يفيد تحرك الأفلاك حول الشمس .
(  5  )   مؤرخ ايطالى ولد فى روما سنة 55 م  وعاش حتى سنة 120 م . 
روابط هذه التدوينة قابلة للنسخ واللصق
URL
HTML
BBCode
التعليقات
0 التعليقات

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق