قبل عيد الميلاد عام 1603م بأيام قليلة , وفى ليلة 17 ديسمبر بالتحديد كان صاحب الفخامة الأمبراطورى يوحنا كيبلر الرياضى والفلكى جالساً فى سكون الليل فى أعالى مقاطعة مولدافيا ( الواقعة شرق رومانيا ) فى مدينة براج ( عاصمة تشيكوسلوفاكيا حالياً ) , يتطلع فى صفحة السماء بتلسكوبه المتواضع ليراقب اقتراب كوكبين معاً .
وتسمى ظاهرة تزامن جرميين سماويين ليلتقيا معاً عند درجة
واحدة فى منطقة البروج – باللغة الفلكية – " اقتراناً " . فأحياناً
يتحركان كوكبان ليصيرا قريبين أشد الاقتراب لبعضهما البعض حتى أنهما يبدوان كأنهم
نجم واحد أكثر سطوعاً وحجماً . وكان كوكبا " زحل " ( ساتورن saturn ) , والمشترى (
جوبيتر Jupiter )
على ميعاد فى تلك الليلة لكى يلتقيا معاً
عند موضع برج الحوت ( pices ) .
وفجأة تذكر كيبلر بينما كان يلقى نظرة على مذكراته , ما
قرأه فى كتابات " الرابى أبار بانل Abarbanel ) مشيراً الى تلك القوة الخفية غير العادية التى
نسبها علماء الفلك اليهود لهذا البرج . فقد قالوا أن المسيا سيأتى عند اقتران زحل
مع المشترى فى برج الحوت .
فهل كان قد حدث مثل هذا الاقتران عند ميلاد المسيح كما
لاحظه كيبلر عام 1603م ؟ هل أعلن هذا الاقتران -
كما كتب كيبلر فيما بعد – عن مجئ " نجم بيت لحم " الحقيقى ؟ أو
أن هذا الاقتران ذاته كان هو " نجم بيت لحم " كما اعتقد بعض الناس فى
وقت متأخر معتمدين على كيبلر كمصدر لأعتقادهم ؟ !
أخذ كيبلر يراجع حساباته مرات , وكان نتيجة حساباته أن
هذا الاقتران قد وقع ثلاث مرات فى سنة واحدة . أما الحسابات الفلكية فقد حددت
ألتوقيت سنة 7 قبل الميلاد الا أنه حسب جدول النجوم يجب أن يكون سنة 6قبل الميلاد
, وكان كيبلر مرجحاً سنة 6 ق.م , وأرخ بناءً على ذلك أن يكون حبل القديسة مريم
العذراء سنة 7 ق.م .
وقد نشر اكشافه المذهل هذا فى العديد من الكتب , الا أن
هذا النابغة المستنير , الذى وضع قوانين الكواكب المعروفة باسمه , انغمس بافراط فى دنيا التصوف والتأمل
المبهم . ونتج عن ذلك أن نبذت آراء كيبلر العلمية مدة طويلة من الزمن , ثم
تجاهلوها فى النهاية . ولم يتذكرها الفلكيون ثانية الا فى القرن التاسع عشر .
وأخيراً , وفى سنة 1925 م استطاع البحاثة الالمانى ( ب. شنابل
P. Schnabel ) أن يفك مغاليق
الشفرة فى " الأوراق " بالحروف المسمارية من العصر البابلى الحديث – Neo – Babylonian والتى وجدت فى معهد مهنى مشهور فى العالم
القديم , وهو مدرسة التنجيم فى زيبار " Sippar " ببلاد بابل . ففى وسط قوائم لا تنتهى من
من التواريخ المملة للأرصاد اعرضته ملاحظة عن تنظيم الكواكب فى برج الحوت . وكان
المشترى وزحل مرصودين بكل اعتناء على مدة خمسة شهور . وكانت السنة هى نفسها 7
ق.م كما هى محسوبة فى تقويمنا .
وهكذا صار على علماء الآثار والمؤرخين أن يعيدوا تصورهم
عن عصير سحيق فى القدم , بجهود جبارة , من الآثار والوثائق , ومن الاكتشافات
المتفرقة وأجزاء المخطوطات . الا أن العملية أبسط جداً بالنسبة للفلكى الحديث ,
ففى استطاعته أن يدير الى الوراء الساعة الكونية عندما يريد . ويمكنه بواسطة
البلانيتاريوم ( 1 ) أن ينظم سماء النجوم تماماً كما كانت منذ الآف السنين بالنسبة
لسنة محددة وشهر محدد بل ويوم محدد , كما يمكنه أيضاً حساب تنظيم النجوم فى أى
زمان من الماضى بنفس الدقة .
وهكذا ثبت أن المشترى وزحل قد التقيا فى برج الحوت سنة 7
ق.م , كما اكتشف كيبلر من قبل , وأنهما تقابلا فعلاً ثلاث مرات فى تلك السنة .
وبينت الحسابات الرياضية - فوق ذلك – أن
هذا الاقتران الذى تم ثلاث مرات كان ظاهراً بوضوح للناظر من منطقة البحر الابيض
المتوسط بصفة خاصة .
أما جدول التوقيت الزمنى لالتقاء الكوكبين , بعد استخلاصه من نظام
التواريخ المملة للحسابات الفلكية الحديثة , فيبدو على هذه الصورة :
فى حوالى نهاية شهر فبراير سنة 7 ق. م . بدأ التجمع حيث
تحرك المشترى من برج الدلو متجهاً نحو زحل فى برج الحوت . ولما كانت الشمس فى ذلك
الوقت عند برج الحوت فقد حجب ضوءها البرج . ولم يظهر صعود الكوكبين معاً الا فى 12
ابريل من تلك السنة عند ظهور أول نجم فى فجر ذلك اليوم ( 2 ) وبفارق 8 دراجات طولية .
وفى يوم 29 مارس حدث الأقتران الأول - وكان منظوراً فى السماء لمدة ساعتين كاملتين فى
وضح النهار - عند الدرجة الواحدة والعشرين
من برج الحوت وبفارق صفر طولياً و 98ر . درجة عرضية .
وتم الاقتران الثانى فى 3 أكتوبر عند الدرجة 18 من برج
الحوت .
وفى الرابع من ديسمبر تم الاقتران الثالث والأخير بين
المشترى وحل , وكان هذه المرة عند الدرجة 16 من برج الحوت , وفى آخر يناير سنة 6
ق. م تحرك كوكب المشترى خاجاً من برج
الحوت الى داخل برج الحمل .
ومن هنا كان قول المجوس : " رأينا نجمه فى المشرق
... "( مت 2 : 2 ) . ويجب ملاحظة أن " المشرق " هنا قد جاءت فى
الأصل اليونانى فى الصيغة المفردة
أى " المشارق " , والصيغة المفردة تحمل مفهوماً خاصاً عند الفلكيين , فى كونها تعنى رصد أول نجم يظهر فى السماء قبل بزوغ شمس النهار , الذى يسمونه " البزوغ الهيلياكى = Heliacal rising " .
فاذا أردنا اذن ترجمة واضحة للآية مت 2: 2 , فيجب أن
تكون هكذا " ... رأينا نجمه عند بزوغ الآشعة الاولى للفجر . " (3 ) فانها بذلك تتفق مع الحقائق الفلكية . هذا اذا افرضنا
أن نجم برج الحوت - موضوع المناقشة - هو بالفعل النجم الذى رآه المجوس , نجم بيت لحم
, نجم ميلاد المسيح , فلا شك أن الأمر مازال موضع بحث ودراسة . وربما تساعدنا
الاعتبارات الآتية بعض الشئ .
استطاع المنجمون القدماء فى الشرق بتحديقهم فى السماء أن
يلحقوا دلالة خاصة بكل نجم . فالنسبة للكلدانيين كان برج الحوت هو علامة للغرب ,
أى لبلاد البحر الأبيض المتوسط : وفى التقليد اليهودى كان رمزاً لاسرائيل , ورمزاً
للمسيا . ويقع برج الحوت فى نهاية المسار الشمسى القديم وفى بداية مسارها الجديد ( 4 ) . وما هو أجمل من ذلك أنهم رأوا فيه رمزاً لنهاية عصر
قديم وبداية عهد جديد ؟!
أما المشترى فكانت كل الأمم ترى فيه رمزاً لنجم الحظ
والنجم الملكى . وحسب التقليد اليهودى القديم كانوا يفترضون فى كوكب زحل أنه يحمى
اسرائيل : وقد عادله " تاكيتوس Tacitus "(5 ) باله اليهود
! أما المنجمون البابليون فقد احتسبوا هذا
الكوكب بأنه النجم الخاص بالبلاد المجاورة لسوريا وفلسطين .
ومنذ أيام نبوخذناصر عاش الآف من اليهود فى بلاد بابل .
وكثيرون منهم درسوا فى مدرسة التنجيم فى " زيبار " . ولابد أن هذا
اللقاء بين المشترى وزحل , حارس اسرائيل , وفى برج الحوت , الخاص ببلاد الغرب ,
وبالمسيا أيضاً , لأبد أنه قد أثار انتباه المنجمون اليهود . لأن ذلك يدل - حسب اساليب التفكير عند المنجمين - على قيام ملك قوى فى بلاد الغرب , أرض آبائهم
وكان هذا هو السبب فى رحلة الفلكيين من بلاد المشرق , لكى يختبروا ذلك بأنفسهم ويروه بأعينهم .
وهذا ما يمكن أن يكون هو مجرى الأحداث : فى سنة 29 مايو
من سنة 7 ق.م . لاحظ الفلكيون الاقتران الأول بين الكوكبين من فوق سطح مدرسة
المنجمين فى زيبار . وفى ذلك الوقت كان الحر لا يطاق فى بلاد ما بين النهرين .
فالصيف ليس وقتاً مناسباً للرحلات الطويلة الشاقة . ومن ناحية اخرى فقد كانوا
يعلمون عن الاقتران الثانى فى الثالث من شهر اكتوبر , اذ كان فى امكانهم أن
يتنبأوا عن الاقتران مقدماً وبكل دقة , تماماً كما يتنبأ الفلكيون عن المواعيد
المستقبلة لخسوف الشمس والقمر . وربما كانت حقيقة وقوع يوم الكفارة اليهودى فى 3
أكتوبر محبذاً لهم للبحث فى رحلتهم فى ذلك الميعاد . وكان السفر فى الطرق الممهدة
للقوافل , عملية تحتاج الى تمهل وروية , حتى ولو كان السفر بالجمال التى كانت أسرع
وسائل النقل حينذاك . واذا قدرنا لهذه الرحلة ستة أسابيع , فيكون وصول المجوس
لأورشليم فى أواخر شهر نوفمبر .
- " أين هو
المولود ملك اليهود فاننا رأينا نجمه فى المشرق واتينا لنسجد له " . "
فلما سمع هيرودس الملك اضطرب وجميع اورشليم معه " ( مت 2 : 2 - 3 ) .
بالنسبة لهؤلاء الفلكيين الشرقيين لأبد أن يكون هذا هو
السؤال الأول والواضح الذى أثار قلقاً مروعاً فى اورشليم . وكانوا لا يعرفون شيئاً
عن التنجيم فى المدينة المقدسة . وكان هذا الخبر بالنسبة لهيرودس الطاغية المكروه
بمثابة انذار بخطر أت . فان اعلان ميلاد
ملك جديد يضع سلطانه موضع المناقشة . أما الشعب -
من الجانب الآخر - فكان سروره هائل
, كما يبدو من مصلدر تاريخية اخرى . حتى أنه بعد حوالى سنة من هذا الاقتران بين
الكوكبين – الذى تكلمنا عنه - قامت حركة
مسيانية قوية . فقد سجل المؤرخ اليهودى
فلافيوس يوسيفوس أنه فى حوالى ذلك الوقت من الزمان راجت اشاعة بأن الله قد
قرر أن يضع نهاية لحكم الرومان الغرباء , وأنه قد ظهرت علامة من السماء أعلنت عن
مجئ ملك يهودى . ولم يكن هيرودس المعين من الرومان لم يكن يهودياً , فى الواقع ,
بل كان أدومياً .
لم يتردد هيرودس بل " جمع كل رؤساء الكهنة وكتبة
الشعب وسألهم أين يولد المسيح " فبحثوا فى الكتب المقدسة العتيقة لأمتهم
ووجدوا الاشارة الى ذلك متضمنة فى سفر النبى ميخا الذى عاش منذ 700 سنة فى مملكة
يهوذا : " وأما انت يا بيت لحم أفراتة وانت صغيرة أن تكونى بين الوف يهوذا , فمنك يخرج لى الذى يكون متسلطاً على اسرائيل ومخارجه
منذ القديم منذ أيام الأزل " ( ميخا 5 : 2 )
" حينئذ دعا هيرودس المجوس ... ثم أرسلهم الى بيت
لحم " ( مت 2 : 4 – 8 ) . واذا اقترن المشترى مع زحل للمرة الثالثة فى برج
الحوت فى الرابع من ديسمبر " فرحوا فرحاً عظيماً جداً " , ومضوا قدماً
نحو بيت لحم , " واذ النجم الذى رأوه فى المشرق يتقدمهم ." ( مت 2 : 10
- 9 )
وتقع بيت لحم فى الطريق الى حبرون نحو خمسة أميال من
أورشليم , وهى نفسها بيت لحم يهوذا المعروفة منذ القدم . هذا الطريق القديم الذى
اجتاز فيه ابراهيم ذات يوم , يمتد أخذاً اتجاه الشمال الى الجنوب تقريباً . ويبدو
أنه لما حدث هذا الاقتران الثانى بين الكوكبين المشترى وزحل , ظهرا كما لو كان
ذابا فى نجم واحد عظيم ساطع , حتى أنهما كانا منظرين بالعين فى ضياء عسق الليل فى
اتجاه الجنوب , وهكذا كان مجوس المشرق فى طريقهم من أورشليم الى بيت لحم ( جنوباً
) يرون النجم الساطع أمام عيونهم كل الوقت , كما يقول الانجيل , فقد كان النجم
فعلاً " يتقدمهم "
وهكذا فى كل سنة يسمع ملايين الناس فى كل أنحاء العالم
قصة " مجوس المشرق " . وصار " نجم بيت لحم " , الرمز المرتبط
دائماً بعيد ميلاد السيد المسيح , منطبعاً على جوانب اخرى من الحياة . ففى قواميس
سير مشاهير الرجال وعلى شواهد المقابر توضع علامة النجم بجانب تاريخ الميلاد .
-------------------------
( 1
) البلانيتاريوم : جهاز خاص بالفلكيين يظهر حركات الشمس والقمر
والكواكب السيارة والنجوم بتسليط داخل قبة فيه
( 2
) يعبر الفلكيون عن لحظة ظهور أول
نجم فى الفجر باصطلاح معين يعرف بالانجليزية
Heliacal أى بالقرب من الشمس , حيث Helios باليونانية معناها الشمس .
( 3
) ويتمشى هذا النص مع الآيات
القائلة " قبل كوكب الصبح ولدك "( مز110 : 3 )
, " أنا كوكب الصبح المنير " ( رؤ 22 : 16 ) .
( 4
) الشمس لا تتحرك طبعاً , ولكن
الكلام هنا حسب المفهوم القديم وهو يفيد
تحرك الأفلاك حول الشمس .
( 5
) مؤرخ ايطالى ولد فى روما سنة 55
م وعاش حتى سنة 120 م .
روابط هذه التدوينة قابلة للنسخ واللصق | |
URL | |
HTML | |
BBCode |