السبت، 16 يناير 2016

سر تجسد الرب



التجسد عمل مشترك بين الثالوث القدوس والمشيئة البشرية :
التجسد لم يكن من عمل الثالوث القدوس وحده , بل أيضاً بالمشاركة مع مشيئة ايمان  القديسة العذراء مريم نيابة عن البشرية كلها . 


فكما أن الرب تجسد باختياره أراد ايضاً أن الدته حمله بحريتها وموافقتها التامة . ففى شخص العذراء القديسة أعطت البشرية موافقتها لكلمة الله أن يصير جسداً ويسكن بين البشر .
ولما  جاء " ملء الزمان " كان لابد لكى يتجسد الرب أن يخلى ذاته , أى يتخلى عن مجد لاهوته ليصير فى شبه الناس :" الذى اذ كان فى صورة الله لم يحسب خلسة أن يكون معادلاً لله . لكنه اخلى نفسه آخذاً صورة عبد , صائراً فى شبه الناس . واذ وجد فى الهيئة كأنسان , وضع نفسه وأطاع حتى الموت موت الصليب " ( فى 2 : 6 -  8 ) . فمساوته للآب هى من طبيعته الالهية التى لم يكتسبها خلسة -  كما يقول بولس الرسول -  ثم أن صيرورته انساناً تعنى تخليه عن مجد لاهوته , لكى بصيرورته عبداً مثلنا يحررنا من العبودية ويهبنا البنوة لله . لقد كان الرب يسوع مستعداً للذبح حتى أنه قبل موت العبيد المجرمين المحكوم عليهم بالأعدام صلباً , لكى يأخذ مكاننا نحن العبيد الحقيقيين الخطاة المحكوم عليهم بالموت الأبدى ! ونتيجة هذا العمل الفدائى هى :" لذلك رفعه الله أيضاً وأعطاه الاسم الذى فوق كل اسم ( حسب اليونانى ) لكى تجثو باسم يسوع كل ركبة ممن فى السماء ومن على الارض ومن تحت الأرض , ويعترف كل لسان أن يسوع المسيح هو رب لمجد الله الآب " ( فى 2 : 9 – 11 ) 
وعندما يقول بولس الرسول :" صائراً فى شبه الناس " , وأيضاً :" اذ ارسل ابنه فى شبه جسد الخطية " ( رو 8 : 3 ) , فهو لا يعنى أى نقص فى اللاهوت الذى اتخذه لأجلنا , بل أنه باختياره :" من أجلكم افتقر وهو غنى , لكى تستغنوا أنتم بفقره " ( 2كو 8 : 9 ) . ففى كل تلك الآيات يركز الوحى الألهى على فعل التجسد الذى تم بالاخلاء والافتقار الاختيارى .
وفى ذلك يقول القديس كيرلس الاسكندرى :
]   يتكون سر التجسد بأكمله من اخلاء ابن الله لذاته [  ( 1 )
فباخلاء الرب لذاته أخضع مشيئته لمشيئة الآب بطاعته له حتى الصليب والموت , وذلك رغم أن مشيئة الأقانيم الثلاثة واحدة , وهذا أمر يفوق ادراكنا. فالمشيئة الالهية فى المسيح كانت حينئذ هى المشيئة الواحدة المشتركة فى الأقانيم الثلاثة .
وهنا يقول القديس كيرلس الكبير :
]  لأن الابن لم يمكنه أن يفعل شيئاً لم يعله الآب . وفى الحقيقة طالما أن الابن يشارك الآب فى  الجوهر , فهو حائز بالضرورة لنفس المشيئة وذات القوة [  ( 2 )
لذلك يقول الابن :" الذى رآنى فقد رآى الآب "( يو 14 : 9 ) .
وكلمة " الاخلاء "   κενωσις   , يقصد بها طريقة مجئ الاقنوم الثانى الى العالم , حيث تمت المشيئة الواحدة المشتركة للثالوث التى مصدرها هو الآب . وان قول المسيح :" أبى أعظم منى " ( يو 14 : 28 ) , يشرح  هذا الاخلاء لذاته , وهذا يعنى أن العمل الذى أكمله الابن المتجسد على الأرض انما هو عمل الثالوث القدوس . الذى لا يمكن أن ينفصل المسيح عنه حيث يتساوى الابن فى نفس الجوهر ونفس المشيئة التى للآب والروح القدس . فاخلاء الابن لذاته بتجسده نتج عنه أكمل ظهور لألوهية الابن لجميع الذين أمكنهم أن يتحققوا من أن العظمة هى فى الاتضاع , والغنى هو فى التجرد والحرية هى فى الطاعة , لأن عينى الايمان ضروريتان للتعرف , ليس على اقنوم الابن المتجسد فحسب بل على كل انسان مخلوق على صورة الله .
والقديس يوحنا ذهبى الفم يقول عن اتضاع الرب فى تجسده :
]   رغم أن الرب كان موجوداً فى العالم ( قبل التجسد ) , فهو يبدو كأنه غير موجود لأنه لم يكن معروفاً ( أو محسوساً ) لكنه بعد ذلك استعلن ذاته واختار أن يلس جسدنا , وقد سمى الانجيلى هذا الاستعلان " مجيئاً " (" الى خاصته جاء ") , ومن العجيب أن هذا التلميذ لم يخجل من اتضاع سيده هذا , بل أنه كتب بحرية عن اتضاعه , وهذا برهان ليس بالقليل على اخلاص شخصيته . أما الذين قبلوا اتضاعه هذا لأجلهم كتب عنهم :" أعطاهم سلطاناً أن يصيروا أولاد الله " ( يو 1 : 12 ) ( 3 )
والقديس مار اسحق السريانى يعلمنا أن نتشبه باتضاع الرب المتجسد فى قوله :
]  ان كلمة الله الذى صار انساناً قد التحف بالاتضاع , وكذا تكلم معنا وهو فى جسدنا . وكل انسان يلتحف بالاتضاع يصير مثل ذاك الذى نزل من علو مجده وأخفى بهاء جلاله ومجده بالاتضاع لئلا تحترق الخليقة بالكلية بتأملها فيه . فالخليقة لم يمكنها أ، تنظر اليه ما لم يكن قد أخذ جزءاً منها لنفسه , وهكذا تحادث معها , بل انها ما كان ممكناً لها أن تسمع كلمات فمه وجهاً لوجه ... ان رتب الملائكة لا تستطيع أن تقترب من المجد الذى يحيط بعرش جلاله , ومع ذلك فقد ظهر فى العالم لأجلنا فى هيئة متواضعة كما قال اشعياء النبى : " ونحن رأيناه ولكن لم يكن له صورة ولا جمال " ( اش 53 : 2 سبعينية ) . انه هو غير المرئى من كل طبيعة مخلوقة , الذى لبس جسداً وتمم تدبير الخلاص والحياة للشعوب التى به تطهرت . [  ( 4 )
------------------------- 
( 1 ) ضد نسطور 3 : 4
( 2 )  شرح انجيل يوحنا : II,t.73,361D
( 3 ) عظة 10 على شرح انجيل يوحنا
( 4 ) Homily 77, Homily33 
روابط هذه التدوينة قابلة للنسخ واللصق
URL
HTML
BBCode
التعليقات
0 التعليقات

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق