التجسد عمل مشترك بين الثالوث القدوس والمشيئة البشرية :
التجسد لم يكن من عمل الثالوث القدوس وحده , بل أيضاً بالمشاركة مع مشيئة
ايمان القديسة العذراء مريم نيابة عن
البشرية كلها .
فكما أن الرب تجسد باختياره أراد ايضاً أن الدته حمله
بحريتها وموافقتها التامة . ففى شخص العذراء القديسة أعطت البشرية موافقتها لكلمة
الله أن يصير جسداً ويسكن بين البشر .
ولما جاء "
ملء الزمان " كان لابد لكى يتجسد الرب أن يخلى ذاته , أى يتخلى عن مجد لاهوته
ليصير فى شبه الناس :" الذى اذ كان فى صورة الله لم يحسب خلسة أن يكون
معادلاً لله . لكنه اخلى نفسه آخذاً صورة عبد , صائراً فى شبه الناس . واذ وجد فى
الهيئة كأنسان , وضع نفسه وأطاع حتى الموت موت الصليب " ( فى 2 : 6 - 8 ) . فمساوته للآب هى من طبيعته الالهية التى
لم يكتسبها خلسة - كما يقول بولس الرسول
- ثم أن صيرورته انساناً تعنى تخليه عن
مجد لاهوته , لكى بصيرورته عبداً مثلنا يحررنا من العبودية ويهبنا البنوة لله .
لقد كان الرب يسوع مستعداً للذبح حتى أنه قبل موت العبيد المجرمين المحكوم عليهم
بالأعدام صلباً , لكى يأخذ مكاننا نحن العبيد الحقيقيين الخطاة المحكوم عليهم بالموت
الأبدى ! ونتيجة هذا العمل الفدائى هى :" لذلك رفعه الله أيضاً وأعطاه الاسم
الذى فوق كل اسم ( حسب اليونانى ) لكى تجثو باسم يسوع كل ركبة ممن فى السماء ومن
على الارض ومن تحت الأرض , ويعترف كل لسان أن يسوع المسيح هو رب لمجد الله الآب
" ( فى 2 : 9 – 11 )
وعندما يقول بولس الرسول :" صائراً فى شبه الناس
" , وأيضاً :" اذ ارسل ابنه فى شبه جسد الخطية " ( رو 8 : 3 ) ,
فهو لا يعنى أى نقص فى اللاهوت الذى اتخذه لأجلنا , بل أنه باختياره :" من
أجلكم افتقر وهو غنى , لكى تستغنوا أنتم بفقره " ( 2كو 8 : 9 ) . ففى كل تلك الآيات
يركز الوحى الألهى على فعل التجسد الذى تم بالاخلاء والافتقار الاختيارى .
وفى ذلك يقول القديس كيرلس الاسكندرى :
] يتكون سر التجسد بأكمله من اخلاء ابن الله
لذاته [ ( 1 )
فباخلاء الرب لذاته أخضع مشيئته لمشيئة الآب بطاعته له
حتى الصليب والموت , وذلك رغم أن مشيئة الأقانيم الثلاثة واحدة , وهذا أمر يفوق
ادراكنا. فالمشيئة الالهية فى المسيح كانت حينئذ هى المشيئة الواحدة المشتركة فى
الأقانيم الثلاثة .
وهنا يقول القديس كيرلس الكبير :
] لأن الابن لم يمكنه أن يفعل شيئاً لم يعله الآب
. وفى الحقيقة طالما أن الابن يشارك الآب فى
الجوهر , فهو حائز بالضرورة لنفس المشيئة وذات القوة [ ( 2 )
لذلك يقول الابن :" الذى رآنى فقد رآى الآب "(
يو 14 : 9 ) .
وكلمة " الاخلاء " κενωσις
, يقصد بها طريقة مجئ الاقنوم الثانى الى العالم , حيث تمت المشيئة الواحدة
المشتركة للثالوث التى مصدرها هو الآب . وان قول المسيح :" أبى أعظم منى
" ( يو 14 : 28 ) , يشرح هذا الاخلاء
لذاته , وهذا يعنى أن العمل الذى أكمله الابن المتجسد على الأرض انما هو عمل
الثالوث القدوس . الذى لا يمكن أن ينفصل المسيح عنه حيث يتساوى الابن فى نفس
الجوهر ونفس المشيئة التى للآب والروح القدس . فاخلاء الابن لذاته بتجسده نتج عنه
أكمل ظهور لألوهية الابن لجميع الذين أمكنهم أن يتحققوا من أن العظمة هى فى
الاتضاع , والغنى هو فى التجرد والحرية هى فى الطاعة , لأن عينى الايمان ضروريتان
للتعرف , ليس على اقنوم الابن المتجسد فحسب بل على كل انسان مخلوق على صورة الله .
والقديس يوحنا ذهبى الفم يقول عن اتضاع الرب فى تجسده :
] رغم أن الرب كان موجوداً فى العالم ( قبل
التجسد ) , فهو يبدو كأنه غير موجود لأنه لم يكن معروفاً ( أو محسوساً ) لكنه بعد
ذلك استعلن ذاته واختار أن يلس جسدنا , وقد سمى الانجيلى هذا الاستعلان "
مجيئاً " (" الى خاصته جاء ") , ومن العجيب أن هذا التلميذ لم يخجل
من اتضاع سيده هذا , بل أنه كتب بحرية عن اتضاعه , وهذا برهان ليس بالقليل على
اخلاص شخصيته . أما الذين قبلوا اتضاعه هذا لأجلهم كتب عنهم :" أعطاهم
سلطاناً أن يصيروا أولاد الله " ( يو 1 : 12 ) ( 3 )
والقديس مار اسحق السريانى يعلمنا أن نتشبه باتضاع الرب
المتجسد فى قوله :
] ان كلمة الله الذى صار انساناً قد التحف
بالاتضاع , وكذا تكلم معنا وهو فى جسدنا . وكل انسان يلتحف بالاتضاع يصير مثل ذاك
الذى نزل من علو مجده وأخفى بهاء جلاله ومجده بالاتضاع لئلا تحترق الخليقة بالكلية
بتأملها فيه . فالخليقة لم يمكنها أ، تنظر اليه ما لم يكن قد أخذ جزءاً منها لنفسه
, وهكذا تحادث معها , بل انها ما كان ممكناً لها أن تسمع كلمات فمه وجهاً لوجه ...
ان رتب الملائكة لا تستطيع أن تقترب من المجد الذى يحيط بعرش جلاله , ومع ذلك فقد
ظهر فى العالم لأجلنا فى هيئة متواضعة كما قال اشعياء النبى : " ونحن رأيناه
ولكن لم يكن له صورة ولا جمال " ( اش 53 : 2 سبعينية ) . انه هو غير المرئى
من كل طبيعة مخلوقة , الذى لبس جسداً وتمم تدبير الخلاص والحياة للشعوب التى به
تطهرت . [
( 4 )
-------------------------
( 1 ) ضد نسطور
3 : 4
( 2 ) شرح انجيل يوحنا : II,t.73,361D
( 3 ) عظة 10
على شرح انجيل يوحنا
( 4 ) Homily 77, Homily33
روابط هذه التدوينة قابلة للنسخ واللصق | |
URL | |
HTML | |
BBCode |