لقد حدد أنوميوس فى تعاليمه اللاهوتية أن الآب هو وحده الاله . أما الابن والروح القدس فهما خليقتان وبالتتابع وبدرجة تنازلية , استحقا مرتبة علوية وتكريماً خاصاً من لدن الآب الذى أشركهما بنفخة الهية , فرفع مستواهم دون الخلائق البشرية .
. لقد كان سهلاً
على تفكير أنوميوس وصف الآب والتحدث عن الروح القدس : فقد نزه الأول تنزيهاً مطلقاً عن الأتصال
المباشر بالمادة وجعله سجين لفظة . وأفرد للثانى دور وسيط هو أحق ما يقال الحد
الفاصل بين الالوهية والناسوت , اذا ربطه بالأهتمام بالنفس البشرية . وما كان هذا
الأمر ليسهل عليه مع الابن لولا اعمال الفكر ثانية واستنباط طرائق فلسفية مجردة
تمكنه من شرح واقع الابن المزدوج , واقع اله ليس هو بالاله وواقع انسان وما هو
بالانسان .
فبعد أن جرد أنوميوس الابن وحدة الجوهر مع الآب ,
وبعد أن قال أنه غير مشابه له فى أى شئ لأنه خليقة كباقى الخلائق فى عينى الآب
يعود فيكسبه بعض صفات الالوهة ويشركه بحذر فلسفى ببعض الخصائص التى تميز الآب . ان
الكتاب المقدس بعهديه القديم والجديد يتكلم مراراً وتكراراً عن " حكمة الله
" وقدرته " الفائقة الوصف , حتى أن الشك لا ينتابنا ان فكر فى انفسنا أن
أولى صفات الآب هى حكمته وقدرته . ومع ذلك فاننا نرى فى كتابات العهد القديم
تلميحاً سرياً الى أن حكمة الله هى ابنه , الاقنوم الثانى , وفى كتب العهد الجديد
ولا سيما عند الرسول بولس اشارات عديدة وواضحة الى أن الرب يسوع هو حكمة الله (
1كو 1 : 30 ) . فالحكمة الالهية التى كانت تتبدى لأسباط العهد القديم فى أحداث
تاريخية تنم على افتقاد الله لشعبه قد أسفرت فى العهد الجديد عن وجهها وظهرت بهيئة
بشر , فالتجسد الالهى الذى هو يسوع المسيح
برهان آخر على وحدانية الابن والآب .
أما أنوميوس فقد ابتدع ابتداعاً متحذلقاً عندما رأى
أن الحكمة حكمتان : الاولى ملازمة جوهر الآب وأزليته وبها خلق الابن , والثانية هى
حكمة الابن التى حصل عليها لكونه وجد بفعل هذه الحكمة الاولى . وهكذا , فالابن
الذى هو خليقة الآب قد استطاع أن يكون الهاً بالنسبة الى الخلائق الاخرى لجرد كونه
الأول الذى خرج من فكر الآب . كما أنه ايضاً استطاع أن يتصف "الحكمة " و
" القدرة " , هاتين الصفتين للسبب ذاته . ويطبق نفس التفسير على نوال
الابن لصفة " القدرة الالهية " . بهذه الطريقة أكمل أنوميوس تنظير عقيدة
التجسد الالهى وتبرئة عقيدته من فكرة التساوى فى الجوهر لا من فكرة التشابه كما
أراد , وبات التجسد صناعة الهية لا عطاء ذاتياً , والخلاص عملاً ناقصاً لا فداءً
كاملاً , ويتابع أنوميوس تنظير عقيدة التجسد فيقول : أن " الحكمة " هى
التى ملأت فى شخص يسوع المسيح حيز النفس البشرية , فالكلمة اكتفى بأن استعار جسداً
بشرياً لا نفس فيه وحل فى هذا الجسد . لذلك يرى أنوميوس أن فى كتابات العهد الجديد
آيات ترد على لسان يسوع يؤكد فيها عدم معرفته التامة للآب وجهله لبعض نقاط فى
تدبيره كمعرفة " الساعة " .
لقد نفى أنوميوس عن الابن المتجسد اتخاذه نفساً
بشرية لسببين : الأول , تجنباً لصعوبة تفسير حلول روحين محدودين فى جسد واحد ,
والثانى اتقاءً من الدخول فى اجابات على مسائل خاصة أوضاع النفس البشرية . وهكذا
يجد المبتدع نفسه طليقاً فى أن يؤكد على سمو شخص ربنا يسوع المسيح النسبة للكائنات
الاخرى , لأنه ذو مصدر الهى مباشر , وعاش زمناً فيها .
ولذلك فهناك نتيجتان تترتبان على نظرية أنوميوس فى
شرح عقيدة التجسد الالهى . تستند الأولى منها الى واقع التجسد والثانية الى عمل
الفداء الذى هو غايته . فبينما ير أنوميوس أن هذه الطريقة فى " تركيب "
الكلمة المتجسد من نفس الهية وجسد بشرى تحافظ على وحدة الشخص وسلامة الحقائق
الواردة فى الانجيل وامكانية ادراكها فى العقل البشرى , الا أن فى شكلها تبدو
غريبة عن الحق الانجيلى الصحيح , ومطعمة بذهنية اغريقية وثنية . فأشباه الالهة فى
المثيولوجيات اليونانية القديمة هم أنصاف الهة وأنصاف بشر فى آن واحد معاً . وغنية
هى تلك الآداب الهلينية التى تروى قصص بطولات عن مثل أولئك الناس . فأنوميوس اذ
يتكلم عن الابن بهذه الطريقة انما يجعل منه أحد تلك الوجوه الباهرة . ثم ان تأملنا
ملياً فى حقيقة الكلمة المتجسد كما تصوره تعاليم انوميوس اللاهوتية , لوجدنا أن
التجسد غير كاف لغياب النفس البشرية عنه .فليس المتأنس انساناً كاملاً ولا الاله
الهاً , بل كل ما هنالك هو تآلف عنصرين متمايزين فى كائن واحد . ثم أن التجسد
الالهى سر فى حقيقته الذاتية وقد حاول أنوميوس امتهانه مدعياً تفوق المدركات
العقلية المطلق فأفضى الى تصوير مسخ أكثر منه انساناً . أما النتيجة الثانية فهى
انتزاع الصبغة الالهية عن عمل الخلاص . لأن الفادى الذى تجسد وتآلم ومات وقام يبقى
خليقة فى نظر أنوميوس . وانما على أعلى المستويات . وحسب رؤية أنوميوس , سيبقى
العالم المخلص غريباً عن الاله الحق الذى أبدع الكلمة فقط , ثم توارى عن كل عمل
آخر تاركاً كل شئ بين يديه .
والسؤال : هل كان عمل الفداء هذا فى حكمة الآب أم
الابن ؟ ان الجواب يحتم ثانية تساوى جوهر الاثنين , لشدة كمال هذه النعمة , نعمة
الخلاص الذى تم لنا نحن البشر بيسوع المسيح .
ولبيان الخلاف اللاهوتى بين البدعتين : بدعة آريوس
وبدعة أنوميوس . هناك نقطتان عقائديتان. اختلفت الدعوتان فى النظر اليهما : تتعلق نقطة الخلاف الأولى بطبيعة الابن الالهية
. فبينما تنطلق الدعوتان الآريوسية والأنوموسية من نقطة بداية وأحدة وهى الوهة
الآب فقط , فانهما يرسمان منهجاً مختلفاً فيما يتصل بالابن وان أدت النتيجة الى
الغاية ذاتها . ففى نظر آريوس لم ينل الابن صفة الالوهية الا فى ختام رسالته التى
انتدبه اليها الآب . فبعد اتمام رسالة المسيح خير اتمام وتحقيق مشيئة الآب "
لتكن مشيئتك " ( مت 42 : 26 ) وتحمله الآلام بكل طاعة واستسلام وقوة ارادة ,
كافأه أبوه السماوى مكافأة حسنة على فضيلته , " فأقامه من بين الأموات ,
وأجلسه عن يمينه فى السماوات , وأخضع تحت قدميه كل سلطان ورئاسة" . فالشخص
يسوع المسيح هو اذن – حسب هذه النظرة -
محض خليقة بشرية قد اصطفاها الله بعنايته الخاصة وأيدها بالقدرة على صنع
العجائب , ثم اذ عملت هذه الخليقة بحسب ارادة الله كافأها جزاءً حسناً على عملها
واغدق عليها صفتى الالوهية والتبنى , فليس يسوع المسيح اذن ابناً للآب بالطبيعة
والولادة الروحية , وانما هو ابن بالتبنى ومطابقة الارادة . لكن آريوس يذكر أن
الآب لم ينتظر نهاية العمل الخلاصى كى يكافئ الابن يسوع المسيح بل صيره الهاً
وابناً منذ خلقه فى بداية الكون , قبل تجسده مستبقاً ببصيرته الالهية حياة الابن
الزمنية كلها . بيد أن الرب يسوع المسيح الابن الوحيد يبقى خليقة مثل باقى
الخلائق بالنسبة الى الآب الذى هو وحده
الاله الحق والسرمدى .
أما أنوميوس فقد رأى أن الابن أصبح الهاً لا نتيجة
استحقاقات أفعاله بل جراء وجوده المباشر من الآب , فهو اله منذ اللحظة التى وجد
فيها , ولم يوجد قبل أن تنتشله ارادة الآب من العدم , ان رؤية أنوميوس هذه تتجنب
نسب العلم المسبق الى الآب للمحافظة على بساطة جوهره . وتهدف الى ابراز استعلاء
الآب المطلق على الابن الذى يبدو فى الوهيته مستسلماً لارادة خالقه , وغير قادر
على استحقاق كيانه كما هو فى ذاته . أما التجسد والخلاص فلا ينعمان باهتمام كبير
حسب هذه النظرية اللاهوتية لأن الهدف منصب أكثر على تفسير جوهر الآب , منه على
اتصاله بالعالم .
أما نقطة الخلاف الثانية فتتركز حول معرفة الله
معرفة تامة . ففى نظر آريوس , لا يستحل
فقط على الانسان أن يدرك الله فى ذاته , وانما يستحيل ذلك على الملائكة
ورؤساء الملائكة والابن أيضاً . فبما أن الابن هو خليقة قد مجدها الآب لسمو
فضيلتها فأصبحت الهاً , فهو اذن ذو طبيعة قابلة للتحول والتغير . واذا ما استحال
هذا الامر على الابن فكم بالاحرى على الكائنات الاخرى التى هى دونه مرتبة !
بيد أن أنوميوس يرى أن معرفة الآب ممكنة , بل يؤكد
أيضاً " أن الله لا يعرف عن ذاته أمراً
يزيد على معرفتنا له " ويلوم فيلورستورجيوس تلميذ أنوميوس , آريوس ويوسابيوس اسقف قيصرية على تعليمهما
تعليماً مخالفاً . فالله - حسب أنوميوس
- خال من كل تركيب , وجوهره ذو بساطة كلية
الى حد أنه محصور فى مفهوم واحد وهو أنه " غير مولود " . فمعرفة الانسان
التامة لمعنى التعبير كافية للاحاطة بكل جوهر الخالق .
عن كتاب " الله لا يمكن ادراكه " للقديس يوحنا ذهبى الفم
روابط هذه التدوينة قابلة للنسخ واللصق | |
URL | |
HTML | |
BBCode |