الاثنين، 28 ديسمبر 2015

بدعة أنوميوس فى عقيدة التجسد الالهى


لقد حدد أنوميوس فى تعاليمه اللاهوتية أن الآب هو وحده الاله . أما الابن والروح القدس فهما خليقتان وبالتتابع وبدرجة تنازلية , استحقا مرتبة علوية وتكريماً خاصاً من لدن الآب الذى أشركهما بنفخة الهية , فرفع مستواهم دون الخلائق البشرية .



. لقد كان سهلاً على تفكير أنوميوس وصف الآب والتحدث عن الروح القدس  : فقد نزه الأول تنزيهاً مطلقاً عن الأتصال المباشر بالمادة وجعله سجين لفظة . وأفرد للثانى دور وسيط هو أحق ما يقال الحد الفاصل بين الالوهية والناسوت , اذا ربطه بالأهتمام بالنفس البشرية . وما كان هذا الأمر ليسهل عليه مع الابن لولا اعمال الفكر ثانية واستنباط طرائق فلسفية مجردة تمكنه من شرح واقع الابن المزدوج , واقع اله ليس هو بالاله وواقع انسان وما هو بالانسان .
فبعد أن جرد أنوميوس الابن وحدة الجوهر مع الآب , وبعد أن قال أنه غير مشابه له فى أى شئ لأنه خليقة كباقى الخلائق فى عينى الآب يعود فيكسبه بعض صفات الالوهة ويشركه بحذر فلسفى ببعض الخصائص التى تميز الآب . ان الكتاب المقدس بعهديه القديم والجديد يتكلم مراراً وتكراراً عن " حكمة الله " وقدرته " الفائقة الوصف , حتى أن الشك لا ينتابنا ان فكر فى انفسنا أن أولى صفات الآب هى حكمته وقدرته . ومع ذلك فاننا نرى فى كتابات العهد القديم تلميحاً سرياً الى أن حكمة الله هى ابنه , الاقنوم الثانى , وفى كتب العهد الجديد ولا سيما عند الرسول بولس اشارات عديدة وواضحة الى أن الرب يسوع هو حكمة الله ( 1كو 1 : 30 ) . فالحكمة الالهية التى كانت تتبدى لأسباط العهد القديم فى أحداث تاريخية تنم على افتقاد الله لشعبه قد أسفرت فى العهد الجديد عن وجهها وظهرت بهيئة بشر  , فالتجسد الالهى الذى هو يسوع المسيح برهان آخر على وحدانية الابن والآب .
أما أنوميوس فقد ابتدع ابتداعاً متحذلقاً عندما رأى أن الحكمة حكمتان : الاولى ملازمة جوهر الآب وأزليته وبها خلق الابن , والثانية هى حكمة الابن التى حصل عليها لكونه وجد بفعل هذه الحكمة الاولى . وهكذا , فالابن الذى هو خليقة الآب قد استطاع أن يكون الهاً بالنسبة الى الخلائق الاخرى لجرد كونه الأول الذى خرج من فكر الآب . كما أنه ايضاً استطاع أن يتصف "الحكمة " و " القدرة " , هاتين الصفتين للسبب ذاته . ويطبق نفس التفسير على نوال الابن لصفة " القدرة الالهية " . بهذه الطريقة أكمل أنوميوس تنظير عقيدة التجسد الالهى وتبرئة عقيدته من فكرة التساوى فى الجوهر لا من فكرة التشابه كما أراد , وبات التجسد صناعة الهية لا عطاء ذاتياً , والخلاص عملاً ناقصاً لا فداءً كاملاً , ويتابع أنوميوس تنظير عقيدة التجسد فيقول : أن " الحكمة " هى التى ملأت فى شخص يسوع المسيح حيز النفس البشرية , فالكلمة اكتفى بأن استعار جسداً بشرياً لا نفس فيه وحل فى هذا الجسد . لذلك يرى أنوميوس أن فى كتابات العهد الجديد آيات ترد على لسان يسوع يؤكد فيها عدم معرفته التامة للآب وجهله لبعض نقاط فى تدبيره كمعرفة " الساعة " .
لقد نفى أنوميوس عن الابن المتجسد اتخاذه نفساً بشرية لسببين : الأول , تجنباً لصعوبة تفسير حلول روحين محدودين فى جسد واحد , والثانى اتقاءً من الدخول فى اجابات على مسائل خاصة أوضاع النفس البشرية . وهكذا يجد المبتدع نفسه طليقاً فى أن يؤكد على سمو شخص ربنا يسوع المسيح النسبة للكائنات الاخرى , لأنه ذو مصدر الهى مباشر , وعاش زمناً فيها .
ولذلك فهناك نتيجتان تترتبان على نظرية أنوميوس فى شرح عقيدة التجسد الالهى . تستند الأولى منها الى واقع التجسد والثانية الى عمل الفداء الذى هو غايته . فبينما ير أنوميوس أن هذه الطريقة فى " تركيب " الكلمة المتجسد من نفس الهية وجسد بشرى تحافظ على وحدة الشخص وسلامة الحقائق الواردة فى الانجيل وامكانية ادراكها فى العقل البشرى , الا أن فى شكلها تبدو غريبة عن الحق الانجيلى الصحيح , ومطعمة بذهنية اغريقية وثنية . فأشباه الالهة فى المثيولوجيات اليونانية القديمة هم أنصاف الهة وأنصاف بشر فى آن واحد معاً . وغنية هى تلك الآداب الهلينية التى تروى قصص بطولات عن مثل أولئك الناس . فأنوميوس اذ يتكلم عن الابن بهذه الطريقة انما يجعل منه أحد تلك الوجوه الباهرة . ثم ان تأملنا ملياً فى حقيقة الكلمة المتجسد كما تصوره تعاليم انوميوس اللاهوتية , لوجدنا أن التجسد غير كاف لغياب النفس البشرية عنه .فليس المتأنس انساناً كاملاً ولا الاله الهاً , بل كل ما هنالك هو تآلف عنصرين متمايزين فى كائن واحد . ثم أن التجسد الالهى  سر فى حقيقته الذاتية  وقد حاول أنوميوس امتهانه مدعياً تفوق المدركات العقلية المطلق فأفضى الى تصوير مسخ أكثر منه انساناً . أما النتيجة الثانية فهى انتزاع الصبغة الالهية عن عمل الخلاص . لأن الفادى الذى تجسد وتآلم ومات وقام يبقى خليقة فى نظر أنوميوس . وانما على أعلى المستويات . وحسب رؤية أنوميوس , سيبقى العالم المخلص غريباً عن الاله الحق الذى أبدع الكلمة فقط , ثم توارى عن كل عمل آخر تاركاً كل شئ بين يديه .
والسؤال : هل كان عمل الفداء هذا فى حكمة الآب أم الابن ؟ ان الجواب يحتم ثانية تساوى جوهر الاثنين , لشدة كمال هذه النعمة , نعمة الخلاص الذى تم لنا نحن البشر بيسوع المسيح .
ولبيان الخلاف اللاهوتى بين البدعتين : بدعة آريوس وبدعة أنوميوس . هناك نقطتان عقائديتان. اختلفت الدعوتان فى النظر اليهما :  تتعلق نقطة الخلاف الأولى بطبيعة الابن الالهية . فبينما تنطلق الدعوتان الآريوسية والأنوموسية من نقطة بداية وأحدة وهى الوهة الآب فقط , فانهما يرسمان منهجاً مختلفاً فيما يتصل بالابن وان أدت النتيجة الى الغاية ذاتها . ففى نظر آريوس لم ينل الابن صفة الالوهية الا فى ختام رسالته التى انتدبه اليها الآب . فبعد اتمام رسالة المسيح خير اتمام وتحقيق مشيئة الآب " لتكن مشيئتك " ( مت 42 : 26 ) وتحمله الآلام بكل طاعة واستسلام وقوة ارادة , كافأه أبوه السماوى مكافأة حسنة على فضيلته , " فأقامه من بين الأموات , وأجلسه عن يمينه فى السماوات , وأخضع تحت قدميه كل سلطان ورئاسة" . فالشخص يسوع المسيح هو اذن – حسب هذه النظرة -  محض خليقة بشرية قد اصطفاها الله بعنايته الخاصة وأيدها بالقدرة على صنع العجائب , ثم اذ عملت هذه الخليقة بحسب ارادة الله كافأها جزاءً حسناً على عملها واغدق عليها صفتى الالوهية والتبنى , فليس يسوع المسيح اذن ابناً للآب بالطبيعة والولادة الروحية , وانما هو ابن بالتبنى ومطابقة الارادة . لكن آريوس يذكر أن الآب لم ينتظر نهاية العمل الخلاصى كى يكافئ الابن يسوع المسيح بل صيره الهاً وابناً منذ خلقه فى بداية الكون , قبل تجسده مستبقاً ببصيرته الالهية حياة الابن الزمنية كلها . بيد أن الرب يسوع المسيح الابن الوحيد يبقى خليقة مثل باقى الخلائق  بالنسبة الى الآب الذى هو وحده الاله الحق والسرمدى .
أما أنوميوس فقد رأى أن الابن أصبح الهاً لا نتيجة استحقاقات أفعاله بل جراء وجوده المباشر من الآب , فهو اله منذ اللحظة التى وجد فيها , ولم يوجد قبل أن تنتشله ارادة الآب من العدم , ان رؤية أنوميوس هذه تتجنب نسب العلم المسبق الى الآب للمحافظة على بساطة جوهره . وتهدف الى ابراز استعلاء الآب المطلق على الابن الذى يبدو فى الوهيته مستسلماً لارادة خالقه , وغير قادر على استحقاق كيانه كما هو فى ذاته . أما التجسد والخلاص فلا ينعمان باهتمام كبير حسب هذه النظرية اللاهوتية لأن الهدف منصب أكثر على تفسير جوهر الآب , منه على اتصاله بالعالم .
أما نقطة الخلاف الثانية فتتركز حول معرفة الله معرفة تامة . ففى نظر آريوس , لا يستحل  فقط على الانسان أن يدرك الله فى ذاته , وانما يستحيل ذلك على الملائكة ورؤساء الملائكة والابن أيضاً . فبما أن الابن هو خليقة قد مجدها الآب لسمو فضيلتها فأصبحت الهاً , فهو اذن ذو طبيعة قابلة للتحول والتغير . واذا ما استحال هذا الامر على الابن فكم بالاحرى على الكائنات الاخرى التى هى دونه مرتبة !
بيد أن أنوميوس يرى أن معرفة الآب ممكنة , بل يؤكد أيضاً " أن الله لا يعرف عن ذاته أمراً  يزيد على معرفتنا له " ويلوم فيلورستورجيوس تلميذ أنوميوس  , آريوس ويوسابيوس اسقف قيصرية على تعليمهما تعليماً مخالفاً . فالله -  حسب أنوميوس -  خال من كل تركيب , وجوهره ذو بساطة كلية الى حد أنه محصور فى مفهوم واحد وهو أنه " غير مولود " . فمعرفة الانسان التامة لمعنى التعبير كافية للاحاطة بكل جوهر الخالق . 

عن كتاب " الله لا يمكن ادراكه " للقديس يوحنا ذهبى الفم
روابط هذه التدوينة قابلة للنسخ واللصق
URL
HTML
BBCode
التعليقات
0 التعليقات

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق