بعد
أن غصنا يا صديقي مضطرين في وحل نظرية المصادر وجزنا في الماء والنار ولم نحترق،
نجد لزامًا علينا في هذا الفصل أن نتعرض إلى الأدلة التي أقامها أصحاب مدرسة النقد
الأعلى على أن التوراة أُخذت من عدة مصادر وقسَّموا هذه الأدلة إلى:
أولًا:
أدلة لغوية: وتشمل اختلاف الأسماء الإلهية، واختلاف الأسلوب
الأدبي، واختلاف الألفاظ والأسماء.
ثانيًا:
أدلة موضوعية: وتشمل التكرارات، والمتناقضات.
ثالثًا:
أدلة تشريعية: وتشمل مركزية العبادة ووحدة المعبد، والأعياد،
والذبائح والتقدمات، والنظام الكهنوتي.
وإن
كانت مدرسة النقد الأعلى وليدة البروتستانتية، فإننا نتحدث في هذا الفصل أيضًا على
موقف الكنيسة الكاثوليكية من هذه المدرسة ومدى تأثرها بأفكار وسموم هذه المدرسة..
ألّهم إحفظنا من شر هذه الهرطقات القاتلة.
أولًا: الأدلة اللغوية التي اعتمدت عليها نظرية المصادر
ج- أورد أصحاب مدرسة النقد الأعلى ثلاث أدلة لغوية اعتمدوا
عليها في القول بنظرية المصادر، وهي اختلاف الأسماء الإلهية، واختلاف الأسلوب
الأدبي، واختلاف الألفاظ والأسماء. فيما بلي نورد كل دليل من أدلتهم مع التعليق
عليه:
أ-اختلاف الأسماء الإلهية:
يقول أصحاب النقد "الواقع الأول: اختلاف الأسماء: تعطي
التوراة أسماء مختلفة لله تعالى، وأهمها "يهوه" و"إيلوهيم"
ونلاحظ أن بعض أجزاء التوراة تتميز باستخدام أحد الاسمين، بينما تتميز غيرها
باستعمال الآخر. وهكذا مثلًا يرد اسم "يهوه" 143 مرة في كتاب التكوين،
394 مرة في كتاب الخروج، 310 مرة في كتاب اللاويين، 387 مرة في كتاب العدد، 547
مرة في كتاب التثنية، أما اسم "إيلوهيم" فيأتي 165 مرة في التكوين، 56
مرة في الخروج، ويغيب تمامًا في اللاويين، ويظهر من جديد 10 مرات في العدد، ثم 8
مرات في التثنية، ويرد اسم "يهوه- إيلوهيم" 20 مرة في التكوين.
الواقع الثاني: اختلاف مكان ظهور الأسماء: ونلاحظ إن اسم
"يهوه" و"إيلوهيم" يترددون بالتتابع في التكوين وفي بداية
الخروج. ثم يختفي اسم إيلوهيم اختفاء شبه تام اعتبارًا من (خر 6) فنقابل بعد ذلك
اسم "يهوه " بصفة شبه مستمرة..
النتيجة: دخول مصادر مختلفة في تأليف التوراة.. فهناك
المصدر اليهوي الذي يستخدم اسم "يهوه " والمصدر "الإيلوهي"
الذي يستخدم اسم "إيلوهيم" ومصدر التثنية والمصدر الكهنوتي اللذان
يشتركان مع المصدرين الأولين في استخدام هذه السماء، ولكن يختلفان عنهما في خصائص
أخرى.."(1).
وكان
لأصحاب مدارس النقد آراء خاطئة في تفسير اسم يهوه، فمثلًا:
1- رأى "فولتير" و"كومث"
و"شلر" وغيرهم بأن اسم "يهوه " من أصل مصري، وهذا الرأي يعتمد
على أن خلاص شعب الله من أرض مصر تضمَّن صراعًا رهيبًا بين يهوه وآلهة المصريين.
2- رأى "لاند" و"كولنصو" وآخرون أن اسم
"يهوه " قد أُخذ من القبائل السامية الشمالية، ومعناه "إله السماء
" أو "معطي الخصب " وكانت تقدم له العبادة السريانية الخليعة.
3- قال البعض إن اسم "يهوه" يقصد به الإله
"ديونسيوس " الكنعاني، لأنهم وجدوا أثرًا قديمًا ارتبط فيه اسم
"ياو" بالإله ديونسيوس، فقالوا إن العبرانيين أخذوا اسم يهوه من
"ياو " وبعد ذلك اكتشفوا أن هذا الأثر لاحق لظهور اسم يهوه على يد الآباء
وموسى النبي.
4- رأى البعض أن اسم "يهوه" مستمد من قوائم مصرية
قديمة لأماكن كنعانية مثل "بيت ياه" و"بابياه".
5- رأى أتباع "فلهاوزن " أن "يهوه "
كان إلهًا لقبيلة "القينيين" الساكنين في أرض سيناء، والتي كان ينتسب
إليها يثرون حمى موسى، ولذلك ارتبط اسم "يهوه " بجبل سيناء.
6- ربط البعض بين اسم "يهوه " وبين الأسماء
الأشورية البابلية "ياهو" أو "ياه".
-
ربط البعض بين اسم "يهوه " وفعل "هوى " أو "سقط "
أي اندفع من علٍ، ولذلك دعوه إله العاصفة، وقالوا إن "يهوه " عبارة عن
نيزك هوى من السماء، وقال آخرون إن اسم "يهوه " جاء في العربية من كلمة
"هواء" أي هبوب الريح، وقال "فلهاوزن" إن المشابهة اللغوية
واضحة (يركب السماء) وأيضًا دخلت فكرة السقوط على النحو التالي: إن يهوه هو الذي
يجعل الأشياء تسقط، فهو إله المطر، إله العاصفة، وهو ما يؤيده روبرتسون سميث وستاد
وغيرهما"(2).
8-
يرى "كيونين " أن معنى اسم "يهوه " أي الذي يجعل الأشياء
تكون، أي الخالق، وفي المفهوم التاريخي "الذي يجعل مواعيده تتم"(3).
تعليق:
كما تعودنا من أصحاب النقد أن ليس لهم رأيًا واحدًا، إنما هي آراء كثيرة متعارضة،
وكمثال على ذلك قولهم فيما سبق إن اسم "إيلوهيم " يغيب تمامًا في سفر
اللاويين، بينما رأت الغالبية أن سفر اللاويين يمثل جزءًا أساسيًا من المصدر
الكهنوتي كما جاء في نفس المقال "يجد العلماء في الوقائع السابقة دليلًا
كافيًا على أن كتاب اللاويين وباقي أجزاء المصدر الكهنوتي (P) تنتمي إلى المدرسة الكهنوتية"(4)
وأكدوا مرارًا وتكرارًا أن المصدر الكهنوتي استخدم اسم "إيلوهيم "
كقولهم في مقال أضواء على خصائص المصدر الكهنوتي "المصدر الكهنوتي.. وقد أطلق
العلماء في البداية على هذا المصدر اسم "المصدر الإيلوهي " لأنه يدعو
الله تعالى باسم "إيلوهيم ".."(5).. فليقولوا
لنا هل ظهر اسم إيلوهيم في سفر اللاويين أم غاب عنه تمامًا؟!
وإن
قال أصحاب نظرية المصادر أن استخدام موسى اسم "يهوه " واسم
"إيلوهيم " يدل على أنه اعتمد على مصدرين في كتابة التوراة، فإننا هنا
نريد أن نوضح أن الهدف من اسم الله هو أن يتعرف الإنسان على الله، ويدخل في علاقة
شخصية معه، أي أن اسم الله يعلن عن شخصيته وعن حضوره، ولذلك عندما مال موسى لينظر
النار المشتعلة في العليقة سمع صوت الله يقول له "أنا إله أبيك إله إبراهيم
وإله إسحق وإله يعقوب، فغطى موسى وجهه لأنه خاف أن ينظر إلى الله" (خر 3: 6)
وقال الرب لموسى "المكان الذي يختاره الرب إلهكم من جميع أسباطكم ليضع اسمه
فيه سكناه تطلبون وإلى هناك تأتون.. فالمكان الذي يختاره الرب إلهكم ليحل اسمه فيه
تحملون إليه كل ما أنا أوصيكم بها، محرقاتكم وذبائحكم وعشوركم ورفائع أيديكم وكل
خيار نذوركم التي تنذرونها للرب" (تث 12: 5، 11) "وتأكل أمام الرب إلهك
في المكان الذي يختاره ليحل فيه اسمه" (تث 14: 23).. "فتذبح الفصح للرب
إلهك غنمًا وبقرًا في المكان الذي يختاره الرب ليحل اسمه فيه" (تث 16: 2) (تث
16: 6، 11، 26: 2) ولأن اسم الله يدل على حضوره قال داود النبي "ويبتهج بك محبو
اسمك" (مز 5: 11) فالاسم يعبر عن الشخصية، وقال الله لإشعياء النبي "هكذا
يقول لبيت يعقوب الرب الذي فدى إبراهيم.. يقدسون اسمي ويقدسون قدوسي يعقوب ويرهبون
إله إسرائيل" (أش 29: 22، 23) ومعنى تقديس اسم الله أي تقديس الله ذاته.
--------------
(1)
الأب أنطون نجيب - رسالة صديق الكاهن سبتمبر 1971 م ص 31، 32.
(2)
علم اللاهوت الكتابي ص 188.
(3)
المرجع السابق ص 188.
(4)
الأب أنطون نجيب - رسالة صديق الكاهن سبتمبر 1971 م ص 41.
(5)
الأب أنطون نجيب - رسالة صديق الكاهن يونيو 1972 م ص 84.
راجع كتاب حلمى القمص يعقوب
روابط هذه التدوينة قابلة للنسخ واللصق | |
URL | |
HTML | |
BBCode |