كيف تفسر الحياة والموت
والعقل والضمير والخيال والغرائز والعواطف وما بعد الموت؟
الإلحاديون الذين يدَّعون
إن الإنسان ما هو إلّا حفنة من المواد يعجزون عن الإجابة على السؤال السابق، فغير الحي
لا يخلق حيًّا.. كيف تهب المادة الصلدة الجامدة روحًا وحياة للكائنات الحيَّة؟ من أين
أتت الحياة للمادة؟ وإن قالوا إنها أتت من الخلية الأولى التي وجدت بالصدفة منذ ملايين
السنين، فإننا نقول لهم كيف عاشت الخلية الأولى بينما كانت الأرض في صورتها الأولى
منذ ملايين السنين عبارة عن ذوبان ناري تتراوح حرارتها بين 1500- 3000 درجة. ثم إن
العلم عجز حتى الآن وسيعجز للأبد عن خلق هذه الخلية الأولى.. فمن أين أتت؟ ولو أن الخلية
الأولى هي مصدر الحياة، وبالتطور وصلت إلى ما وصلت عليه الآن، فكيف تطورت في شكل الإنسان
الذي يشمل على 80 تريليون خلية، وبالمخ 10 بليون خلية؟ كيف تجمعت كل هذه الخلايا لتكون
الإنسان بوظائفه الحيوية؟ هل بمجرد الصدفة العمياء، وهل ظهر كائن قبل الإنسان أقل تطورًا
فكان مثلًا نصفه إنسان والنصف الآخر حيوان؟ ولماذا لم يظهر كائن آخر أكثر تطورًا من
الإنسان الذي يعيش على الأرض منذ خلقته؟! وهل يمكن أن يكون وضع الجينات المتناهية الصغر
في الإنسان محض الصدفة..؟! إن دراسة علم الوراثة يكشف لنا عن عظمة الخالق. قال أحد
الملحدين بعد أن اهتدى للإيمان "إنني لم أكن أعرف الله، وما كنت أؤمن بوجوده بل
كنت أسخر من الإيمان وأكرز بالكفر، وكنت ألقي محاضرات ضد وجود الله، ولكنني التقيت
بالله في الحياة.. ومن الحياة تعلمت أن هناك الله"(21). وغير العاقل لا يخلق إنسانًا
عاقلًا له ضمير ومشيئة.. كيف تهب المادة غير العاقلة عقلًا للكائنات الحيَّة؟! ومن
ذا الذي وضع في الإنسان قوة التفكير والتدبير والتخيل. قال بردياييف "إن الماركسيين
لم يحاولوا أبدًا أن يفسروا كيف يمكن للوجود المادي أن يتحول إلى تفكير ووجدان؟!"(22)
، وأيضًا كيف تُخرج لنا المادة الصماء البكماء إنسانًا ناطقًا؟!
ومن وضع في الإنسان والحيوان
الغرائز الطبيعية؟.. فلولا غريزة الجوع، وغريزة الخوف، وغريزة حب البقاء لهلك الإنسان
والحيوان.. من علم الطيور المهاجرة والثعابين النيلية مسلكها في الهجرة والعودة عبر
آلاف الأميال؟!.
وأيضًا فشل الإلحاديون
في تفسير ظاهرة الموت، بل وقفوا أمامها مرتعبين، فماركس رغم غزارة إنتاجه الأدبي إلّا
أنه لم يتكلم عن الموت إلّا بسبب موت ابنه فقال "يبدو أن الموت انتصر انتصارًا
قاسيًا"(23). كما قال "إن موت ولدي آلمني كثيرًا حتى إنني أشعر بمرارة فقده
كما في اليوم الأول"(34)(24). وارتعب يا روسلاتسكي أمام الموت قائلًا "احرقوا
كل كتبي. انظروا أنه هنا ينتظرني. احرقوا كل مؤلفاتي"(25).
وبينما فشل الإلحاديون
في الإجابة عما بعد الموت فإن مسيحيِّ رومانيا الشيوعية كانوا يثبتون لهم الحياة بعد
الموت بطريقة بسيطة، فيقولون "لنفرض أنك استطعت أن تخاطب جنينًا في رحم أمه، وأن
تقول له أن حياة الجنين هي لمدة قصيرة فقط، تليها حياة حقيقية طويلة الآن، فماذا يكون
جواب الجنين؟ أنه يجيب بمثل ما تجيبوننا تمامًا أنتم الملحدين عندما نتحدث إليكم عن
السماء وجهنم، فيقول الجنين أن الحياة في رحم أمه هي الحياة الوحيدة، وكل شيء آخر فهو
حماقة دينية، ولكن لو استطاع الجنين أن يفكر لقال لنفسه: ينمو لي هنا ذراعان لست بحاجة
إليهما، كما إني لا أقدر أن أمدهما، فلماذا تنمو إذًا؟ ربما كان ذلك لحقبة قصيرة من
الزمن في مستقبل حياتي حين يجب أن أشتغل بهما. كما إن رجلي تنموان أيضًا. لكن عليَّ
أن أبقيهما منحنيتين نحو صدري، فلماذا تنموان؟ ربما سنلحق الحياة في عالم واسع وعليَّ
أن أنسى آنذاك. كذلك العينان تتكونان أيضًا، ولكن حيث أنني محاط بظلمة شاملة فليس لي
حاجة إليهما. فلماذا تنمو لي عينان؟ ربما سيخلف فيما بعد عالم نور وألوان.. وهكذا،
فلو استطاع الجنين أن يتأمل نموه لعرف عن حياة خارج رحم أمه دون أن يراها. وهذا هو
حالنا نحن أيضًا، فما دمنا صغار السن فلنا حيوية، إنما بلا عقل، لاستخدامها بصورة صحيحة،
ولكن عندما ننمو في المعرفة والحكمة على مر السنين، ينتظرنا النعش ليوصلنا إلى القبر.
فلماذا كان ضروريًا لنا أن ننمو في المعرفة والحكمة اللتين لا نستطيع استخدامها فيما
بعد؟! ولماذا تنمو للجنين ذراعان ورجلان وعينان؟!
الجواب هو: تحضيرًا لما
سيأتي! وهكذا هو حالنا نحن أيضًا هنا على الأرض. فنحن ننمو هنا في الخبرة، والمعرفة
والحكمة استعدادا لما سيأتي في المستقبل، فنحن نتهيأ لخدمة أسمى بعد الوفاة"(2)
ه-عدم إدراك الله بالحواس
لا يعني عدم وجوده:
عقل الإنسان المحدود
يعجز عن إدراك الله الغير محدود، وإن كان عقل الإنسان المحدود ما زال عاجزًا عن إدراك
أسرار وعجائب الطبيعة، فهل نطلب منه أن يدرك ويحوي ويحد الله؟ ولذلك قال الفيلسوف توما
الأكويني "إن الله ليس كما نتصورّه أو نفهمه بمداركنا العاجزة، فإذا عرفنا أن
الله بمفهومنا يكُف عن أن يكون إلهًا. فالعقل البشري أضيق من أن يحد اللامحدود، ولكننا
نستطيع أن نعرفه فقط، لا أن نصل إلى إدراكه"(27). وقال الفيلسوف الهندي مانو
"الإله هو الكائن الذي لا يمكن أن تحويه الحواس المادية، وليس بمقدور العقل أن
يدركه على ما هو عليه. وذلك لاستحالة الكائن الجزئي أن يحوي الكائن الكلي"(28).
ويقول نيافة الأنبا موسى
الأسقف العام "العقل والإيمان، إن العقل ليس ضد الإيمان، ولا الإيمان ضد العقل!!
الإيمان لا يصادر العقل أو يلغيه، ولكنه يؤكد على محدودية العقل، ثم يكمل هو -أي الإيمان-
المشوار معنا. تمامًا مثل التلسكوب، والعين المجردة. فالعين المجردة محدودة في إبصارها،
ترى حتى مسافة معينة، ولا تستطيع أن تدرك تفاصيل الأمور البعيدة، مثل القمر مثلًا،
العين تراه قرصًا جميلًا طالما تغزَّل فيه الشعراء، أما التلسكوب فيستطيع أن يُقرب
الأمور البعيدة، ويجعلنا نرى الكثير من التفاصيل والتضاريس في هذا القمر، الأمر الذي
تعجز عنه العين المجردة المحدودة. العقل مثل العين المجردة.. محدود، والإيمان مثل التلسكوب..
يُكمل لنا المشوار، ويقرب لنا الحقائق البعيدة وغير المحدودة، مثل الله والأبدية، لهذا
يقول معلمنا بولس الرسول "بالإيمان نفهم أن العالمين أُتقنت بكلمة الله"
(عب 11: 3) أي إن الإيمان يشرح لنا ما لا يستطيع العقل إدراكه، فالعقل محدود، والله
غير محدود، وهيهات للمحدود أن يحتوي غير المحدود. هكذا يكون المنطق!..
إذًا فنحن نعرف الله
بالروح بعد أن يتأمل العقل في أمور كثيرة، ويجد أنه محدود، وإنها أبعد منه وفوقه، فيسلم
القيادة للروح، التي تسلم بدورها القيادة لروح الله، وهنا يدرك العقل محدوديته، ويسجد
أمام اللامحدود واللانهائي.. أي أمام الله!
اللانهاية.. حقيقة منطقية.
لا شك إن العقل محدود، بينما الأرقام غير محدودة، وأقصد رقم "اللانهاية
" فإذا ما حلقنا بالفكر في أفاق المستقبل لنحصي سنوات ما بعد سنة 2003 سوف نقول
2004 ثم 2005 ثم 2006 لنصل إلى "مستقبل لا نهائي غير محدود " هو "الأبدية
" إذ يستحيل أن نجد حدودًا للأرقام، أو نهاية لها. فإذا ما رجعنا بفكرنا إلى الأعوام
الماضية فسوف نقول 2002 ثم 2001 ثم 2000.. وسوف نصل أيضًا إلى ماضي سحيق لا نهائي..
هو "الأزلية " إذًا هناك كائن أزلي (لا بداية له) أبدي (لا نهاية له) وهذا
الكائن اللانهائي هو الله، مهندس الكون الأعظم، واجب الوجود، الحياة المانحة للحياة،
والخالق الذي خلق الكل.. بالله الأصل، علة كل المعلولات، وأساس كل الموجودات.. الوجود
الأول، واجب الوجود، وخالق الجميع"(29).
ورغم أن العقل عاجز عن
إدراك الله لكن المسيحية لا تحتقر هذا العقل ولم تلغه كما فعلت الشيوعية، فقد سأل أحد
مؤمني رومانيا أسيرًا روسيًا مهندسًا: هل تؤمن بالله؟ فأجابه "ليس لدي أمر عسكري
بهذا الشأن لأؤمن، فلو كان لي أمر لأمنت"(30).
وكم من الأمور التي لا
يراها الإنسان بالحواس الجسدية، ولكنه يشعر بتأثيرها ويؤمن بوجودها؟ وأكبر مثل على
هذا القوة المغناطيسية والكهربائية والموجات الصوتية.. إلخ، فبالرغم إننا لا نرى الكهرباء
لكننا نراها في المصباح المضيء، ونحس بها في حرارة المدفأة، ونشعر بها في حركة الموتور،
وكم من كائنات دقيقة لا نراها بالعين المجردة ولكننا نراها تحت المجهر، وكم من أصوات
خافتة لا نسمعها بالأذن المجردة ولكن نستطيع أن نستمع إليها من خلال الأجهزة المتخصصة،
فعين النسر ترى ما لا نراه نحن إذ ترى الفريسة على بعد ثلاثة أميال، وأذن الغزال تلتقط
حركة الزلزال قبل حدوثه بعشرين دقيقة. بل إن هناك فرقًا بين عالم الحقيقة وعالم الظواهر،
فالسراب هو من عالم الظواهر وليس بحقيقة، والملعقة في كوب الماء نراها وكأنها مكسورة
وهي ليست كذلك، ونرى للسماء لونًا وهي ليست كذلك.. إلخ.
فعدم رؤيتنا لله لا يعني
عدم وجوده، ومن الطرائف التي تُذكر أن أحد الفلاسفة الملحدين في إحدى محاضراته لمجموعة
من البسطاء قال إننا نرى أمورًا كثيرة، ولكننا لا نرى الله.. لماذا؟ لأن كل شيء موجود
نراه، أما الله فلأنه غير موجود فلا نراه. فقال له أحد البسطاء: هل ذهبت إلى اليابان؟
أجابه الملحد: لا.
المؤمن البسيط: إذًا
أنت لم ترَ اليابان، ولكنك تؤمن بوجودها ووجود اليابانيين لأنك ترى صنائعهم.
الملحد: نعم.
المؤمن البسيط: هكذا
إن كنا لا نرى الله بالعين الجسدية، لكننا ندرك وجوده من خلال مصنوعاته.
وفي إحدى المرات أرادت
مُدرسة أن تلقن البنات الصغار درسًا لا ينسونه عن إنكار وجود الله، فسألت إحدى البنات:
ماذا ترين هناك؟
أجابت الصغيرة: شجرة.
المعلمة: كلنا نرى شجرة..
إذًا الشجرة موجودة.
وكرَّرت المعلمة السؤال
عدة مرات عن أمور أخرى مثل الماء، والعصفورة والمنزل.. إلخ ثم سألت الفتاة الصغيرة:
هل ترين الله؟
فقالت الفتاة: لا أراه.
المعلمة: نعم إننا لا
نرى الله، لأن الله غير موجود، ولا يوجد شيء اسمه الله.
فتصدت لها فتاة أخرى
صغيرة السن عظيمة الإيمان، واستأذنت أن توجه هي الأسئلة لصديقتها الصغيرة، فسألتها
عن الشجرة والعصفورة والماء.. إلخ. ثم سألتها: هل ترين عقل المدرسة؟ فأجابتها: لا أرى
عقل المدرسة، فقالت: إننا لا نرى عقل المدرسة، فهل معنى هذا إن المدرسة بلا عقل؟! وضحكت
الفتيات، وعقبت هذه الفتاة المؤمنة: نحن لا نرى عقل المدرسة ولكننا نصدق أن لها عقلًا،
وهكذا مع إننا لا نرى الله بأعيننا المادية، فإننا نؤمن بوجوده.
-------------------------
(21) نيافة الأنبا غريغوريوس
أسقف البحث العلمي- الإلحاد المعاصر وكيف نجابهه ص 33.
(22) القس انجيلوس جرجس-
وجود الله وصور الإلحاد ص 48.
(23) المرجع السابق ص
80.
(24) أورده القمص تادرس
يعقوب- تفسير سفر التكوين ص 54.
(25) القس انجيلوس جرجس-
وجود الله وصور الإلحاد ص 79.
(26) ريشار وورمبلاند-
العذاب الأحمر ص 124، 125.
(27) القس انجيلوس جرجس-
وجود الله وصور الإلحاد ص 38، 39.
(28) المرجع السابق ص
38.
(29) جريدة وطني
27/4/2003 القيامة والعلم (1) ص 4.
(30) ريشار وورمبلاند-
العذاب الأحمر ص 12.
راجع كتاب " مدارس النقد والتشكيك " لحلمى القمص يعقوب "
روابط هذه التدوينة قابلة للنسخ واللصق | |
URL | |
HTML | |
BBCode |